لتجنب الكبر أثناء التقدم، يجب أن نتذكر أن كل النجاح يأتي من فضل الله، وأن نظل دائمًا شاكرين ومتواضعين تجاه الناس. الاستمرارية في ذكر الله واستخدام النعم في الخير هي طرق حاسمة لمكافحة الغرور.
التقدم والنجاح في الحياة، سواء كان على المستوى المادي أو الروحي، هو طموح كل إنسان، والله تعالى يشجع عباده على السعي لتحقيق ذلك. ولكن هذا التقدم، دائمًا ما يصحبه اختبار عظيم: اختبار الكبر والغرور. الكبر هو حالة يرى فيها الفرد نفسه أرفع من الآخرين، وينسب النعم والإنجازات لنفسه فقط، ويتجاهل فضل الله عليه. في منظور القرآن الكريم، الكبر من أعظم الرذائل الأخلاقية وحجاب كثيف بين الإنسان والحقيقة، يكمن جذره في نسيان الأصل والمآل. ويحذر القرآن صراحة الناس من أن لا تخدعهم نجاحاتهم الدنيوية وتلهيهم عن ذكر الله والتواضع. أول وأساسي وسيلة لتجنب الكبر في فترات التقدم هو الإدراك العميق والدائم لهذه الحقيقة: أن كل ما نملك، بما في ذلك الذكاء والمواهب والفرص والصحة وحتى أنفاسنا، هو كله من فضل الله ورحمته التي لا حد لها. نجاحاتنا ليست مجرد نتيجة لجهودنا الخاصة، بل هي مزيج من سعينا وتقدير ودعم إلهي. يؤكد القرآن الكريم مرارًا على أن الله هو الرزاق، والله هو الذي يمنح القوة، والله هو الذي ييسر طريق النجاح. نسيان هذا المبدأ التوحيدي هو بداية الغرور والكبر. عندما يدرك الإنسان مكانته الحقيقية، أي كونه عبدًا ومخلوقًا، ويعي حدوده، فلا يبقى مجال للكبر. قصة قارون في سورة القصص هي من أبرز الأمثلة القرآنية على هذا التحذير. فقد تكبر قارون بثرائه الفاحش وظن أن هذا المال قد ناله بعلمه وتدبيره، ولكن عاقبته كانت عبرة، فقد خسف الله به وبكنوزه الأرض. هذه القصة تذكير قوي بأن كل قوة ومال الدنيا زائل، وأن الملك الحقيقي لله وحده. ثانيًا، الشكر المستمر والقلبي. الشكر ليس مجرد قول "الحمد لله"، بل هو العمل بمقتضيات الشكر؛ أي استخدام النعم في الطريق الذي يرضاه الله. عندما تكون في قمة النجاح، فإنها فرصة عظيمة للشكر العملي والقلبي. كل خطوة تخطوها نحو التقدم، وكل نجاح تحققه، اعتبره نعمة من الرب، وكن شاكراً بلسانك وعملك. العطاء مما آتاك الله (الإنفاق)، وخدمة الخلق، والتواضع أمام الآخرين، هي من أبرز مظاهر الشكر العملي. شكر النعمة يزيدها ويمنع زوالها، بينما كفر النعمة والغرور يهيئ لزوالها. هذا الشعور بالشكر يمنعك من نسبة النجاح لنفسك ويجنبك العجب. ثالثًا، التواضع والبساطة أمام خلق الله. الكبر غالبًا ما يصاحبه نظرة استعلائية للآخرين واعتقاد بالذات العليا. يحرم القرآن الكريم هذا السلوك بشدة. في سورة لقمان الآية 18 نقرأ: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"؛ أي: "ولا تعرض بوجهك عن الناس تكبرًا، ولا تمش في الأرض متكبرًا متبخترًا، إن الله لا يحب كل متكبر فخور بنفسه". هذه الآية تنهى صراحة عن السلوك الداخلي (الكبر) والسلوك الخارجي (المشي المتكبر والإعراض عن الناس). التواضع لا يعني تحقير الذات، بل يعني رؤية الذات في مكانتها الإنسانية الحقيقية كعبد. عندما تتعامل مع الآخرين، احترم مكانتهم وتذكر أن كل فرد، حتى من يبدو أقل منك، قد يكون له منزلة أعلى عند الله. التواصل مع الفقراء والمحرومين، ورؤية معاناتهم، يمكن أن يذكر بالقيود الدنيوية والفروق الظاهرية، ويعزز روح التواضع. رابعًا، مداومة الذكر وعدم نسيان الله. في ذروة النجاح والانشغالات الناجمة عنه، قد يغفل الإنسان عن ذكر الله. الذكر الدائم، سواء باللسان أو بالقلب، يذكر بأن كل شيء تحت إرادته. الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن هي من أفضل وسائل الحفاظ على هذه الصلة. عندما تسجد لله، تضع جبهتك على الأرض في أقصى درجات التواضع والعبودية أمام الرب، وهذا هو أفضل ترياق للغرور. ذكر الموت والآخرة عامل مهم أيضًا لمكافحة الكبر. عندما يتذكر الإنسان أن هذه الدنيا وكل نجاحاتها فانية وأن مصير الجميع إلى الله، فإنه يقل غروره بالتعلقات الدنيوية والنجاحات المؤقتة. خامسًا، طلب العلم والمعرفة، ولكن بنية إلهية. العلم الحقيقي، بدلاً من أن يجلب الغرور، يجلب التواضع. كلما تعلم الإنسان أكثر، كلما أدرك مدى اتساع جهله. العلماء الحقيقيون عادة ما يكونون الأكثر تواضعاً، لأنهم يعلمون أن المعرفة البشرية ليست سوى قطرة في محيط علم الله اللامحدود. في هذا المسار، يجب أن يكون الهدف من طلب العلم خدمة البشرية والتقرب إلى الله، وليس مجرد الوصول إلى مكانة وسلطة دنيوية. وبالمثل، فإن النفي المطلق للذات وإغراقها في شعور بالنقص مذموم أيضًا في الإسلام. التواضع لا يعني تجاهل القدرات التي وهبها الله؛ بل يعني الإقرار بأن هذه القدرات من الله وقد منحت لنا لخدمته وخدمة خلقه. في الختام، حياة النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) هي خير قدوة لنا. فقد كانوا في أوج قوتهم ونجاحهم، متواضعين دائمًا، ويعتبرون أنفسهم عبادًا لله. هذا المسار هو طريق دائم لتزكية النفس والصمود أمام وسوسة الكبر، يحمي الإنسان في كل مرحلة من مراحل التقدم من السقوط والضلال، ويساعده على تحويل نجاحاته إلى نقطة انطلاق لتحقيق مراتب روحية أعلى.
يُروى أن ملكًا ثريًا كان قد بلغ كل أمانيه الدنيوية. كانت ثروته ومكانته عظيمتين لدرجة أنه ظن أن العالم يسجد له. ذات يوم، في أوج كبريائه، سأل وزيره الحكيم: "هل تعرف في العالم من بلغ منزلتي؟" ابتسم الوزير الحكيم الذي تعلم الحكمة من سعدي لسنوات، وقال: "يا أيها الملك، مقامك عالٍ، ولكن كل من وضع قدمًا على هذه الأرض، سينتهي به المطاف إلى التراب. كنز قارون وتاج فريدون كلاهما دفنا في التراب. التواضع مفتاح أبواب السماء والأرض، والغرور سلم السقوط." فكر الملك في كلام الوزير، وعندما تذكر عاقبة قارون وتاريخ الملوك المتكبرين السابقين، أدرك أن التقدم الحقيقي يصاحبه التواضع. ومنذ ذلك الحين، بدلًا من الكبر، أصبح شاكراً لنعمه، وتعامل مع الناس بتواضع، وترك خلفه اسمًا حسنًا. لأنه جاء في بستان سعدي: "التواضع يرفع رأسك عاليًا، * والكبر يرميك في التراب."