لتجنب استخدام الدين لإثبات الذات، يجب التركيز على إخلاص النية والعبودية الخالصة لله، لا لكسب إعجاب الناس. فالقيمة الحقيقية للأعمال تكمن في النية القلبية والرضا الإلهي، لا في الظاهر والتظاهر.
إن استخدام الدين لإثبات الذات أو لكسب المكانة الاجتماعية هو فخ خفي يمكن أن يحرف مسار الإنسان الروحي. في جوهر التعاليم القرآنية، هناك تأكيد عميق على 'الإخلاص'. الإخلاص يعني تطهير النية والإرادة من أي شائبة غير إلهية؛ أي أن جميع أفعالنا وعباداتنا وحتى سلوكياتنا اليومية يجب أن تكون فقط لكسب رضا الله والتقرب منه، وليس لكسب إعجاب الناس، أو الشهرة، أو تحقيق مصالح دنيوية. يدعو القرآن الكريم البشر مرارًا وتكرارًا إلى هذا الإخلاص في النية ويحذر من أن تفقد أعمالنا الصالحة قيمتها تحت تأثير الرغبات النفسية أو الميول الدنيوية. من المنظور القرآني، فإن الأعمال التي تؤدى بنية الرياء (التظاهر) تفتقر إلى القيمة الروحية الحقيقية. ففي سورة البقرة، الآية 264، يضرب الله مثلاً للذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، وهو ما يشبه الرياء إلى حد كبير. الأعمال التي تبدو صالحة ظاهراً ولكنها خالية من الإخلاص باطناً تُشبه حديقة على صخرة صلبة تجرفها الأمطار الغزيرة. هذه الصورة توضح أن أساس كل عمل صالح يجب أن يبنى على نية إلهية نقية وخالصة لضمان استمراره وثماره. إذا كانت النية هي مجرد إثبات الذات أمام الخلق، فإن العمل، مهما كان عظيماً، يصبح كفقاعة تختفي بأدنى نسمة هواء، ولا يترك لصاحبه سوى التعب والإرهاق. الهدف الأساسي من خلق الإنسان وإنزال الأديان الإلهية هو العبادة الخالصة لله تعالى. في سورة الذاريات، الآية 56، يقول الله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". هذه العبودية تتطلب توجهاً كاملاً نحو الله وحده، وتجرداً من أي شريك في النية. عندما نستخدم الدين لإثبات الذات، فإننا في الواقع نشرك بالله؛ لأننا حولنا الهدف الأساسي للعمل من رضا الله إلى رضا المخلوق. هذا بحد ذاته نوع من الشرك الخفي الذي يمكن أن يبطل جميع الأعمال. القرآن يحارب بشدة كل أنواع الشرك، سواء كان ظاهراً أو خفياً، ويعتبره ذنبًا لا يُغفر إلا بالتوبة. ولكي نكون في مأمن من هذه الآفة الخفية، نحتاج إلى تأمل ومراقبة مستمرة لأنفسنا. الخطوة الأولى هي تحديد نوايانا بدقة. قبل أي عمل عبادي أو خيري، يجب أن نسأل أنفسنا: "ما هو هدفي الأساسي من القيام بهذا العمل؟ هل أريد أن أحصل على إعجاب الناس؟ هل أريد أن أكسب مصداقية أو مكانة؟" إذا شعرنا بأدنى ميل إلى هذه الأمور الدنيوية في قلوبنا، يجب أن نسعى لتطهير نيتنا ونضع رضا الله وحده في الاعتبار. هذا التمرين الذهني يقودنا تدريجياً نحو 'التقوى'؛ والتقوى هي تلك الحالة من خشية الله والورع التي تجعل الإنسان واعيًا بوجود الله في كل لحظة، ويؤدي أعماله لله وحده. علاوة على ذلك، يدعونا ديننا إلى التواضع والسكينة. التظاهر والفخر يتناقضان مع روح الدين. وقد أكد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) دائمًا أن قيمة الإنسان عند الله ليست بكثرة الأعمال الظاهرية، بل بإخلاص النية وعمق الإيمان القلبي. ويصف القرآن الكريم العباد الصالحين بصفات مثل الخشوع، والإنفاق في السر والعلن، والتواضع. فالذين يسعون لإثبات أنفسهم من خلال الدين غالبًا ما يقعون في الغرور والعجب، وهذه الصفات تشكل حاجزًا أمام النمو الروحي والقرب الإلهي. الدين موجود لكي يحررنا من أسر الذات والرغبات الدنيوية، ويوجهنا نحو الحرية الحقيقية والاتصال بمصدر الوجود. في النهاية، يجب أن ندرك أن الحكم النهائي على أعمالنا هو لله وحده. فهو الذي يعلم الغيب والشهادة، ويعلم نوايانا الحقيقية. ففي سورة الملك، الآية 13، يقول: "وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ". هذه الآية تذكرنا أنه حتى لو استطعنا تزيين ظاهر أعمالنا للناس، فلا يمكننا أبدًا أن نخفى عن علم الله المطلق. لذا، بدلاً من أن ينشغل فكرنا بإقرار الآخرين، يجب أن يكون همنا الأوحد هو كسب رضا الخالق. هذا المنهج لا يجلب السلام الداخلي والتحرر من قيود توقعات البشر فحسب، بل يطهر أعمالنا من أي شائبة ويمنحها قيمة ومكافأة حقيقية. فالدين هو أداة لسمو الروح والسلوك الروحي، وليس سلمًا للوصول إلى المناصب الدنيوية أو التباهي بالناس. طريق النجاة يكمن في الإخلاص والعبودية الصادقة.
جاء في گلستان سعدي أن درويشين كانا يتجاوران. كان أحدهما دائم الانشغال بالصلاة والعبادات الطويلة الظاهرة، حتى أن الناس كانوا يلقبونه بـ 'زاهد المدينة' وكان يحظى بالمديح من كل صوب. أما الدرويش الآخر، فكان أقل إظهاراً لعباداته أمام الملأ، ولكنه في خلوته كان غارقاً في ذكر الله، وقلبه مليء بالحب والإخلاص. ذات يوم، سأل أحد تلاميذ الدرويش الأول شيخه: "لماذا لا يقوم الدرويش الجار بنفس القدر من الأعمال الظاهرة مثلك حتى يعرفه الناس؟" فأجاب الدرويش الزاهد: "إنه يخفي عبادته ويبدو أنه يعبد أقل." ولكن عندما وصل هذا الكلام إلى الدرويش الثاني، قال بابتسامة هادئة: "إنه يعبد من أجل نظر الناس ولكسب الثناء، وهذا هو جزاؤه في هذه الدنيا. أما أنا، فإني أعبد الله تعالى وحده ابتغاء مرضاته، وجزائي عنده هو. لا أحتاج لإثبات ذاتي أمام الخلق، لأن الخالق نفسه عالم بالنيات." هذه القصة الجميلة تذكرنا أن القيمة الحقيقية للأعمال تكمن في إخلاص النية والاتصال القلبي بالله، وليس في العرض والتظاهر أمام الآخرين.