حب الله هو الأساس ويجب أن يتقدم على كل محبة أخرى. حب البشر، خاصة عندما يكون لوجه الله وفي إطار التعاليم الإلهية، هو تجلٍ لحب الخالق ويكمله.
إن فهم التوازن بين حب الله وحب البشر هو جوهر الحياة الروحية وسبيل الرضا في الإسلام. هذان النوعان من الحب ليسا متناقضين، بل هما متكاملان ومتجذران بعمق في تعاليم القرآن الكريم. يعلمنا القرآن أن حب الله تعالى هو الأساس والجوهر لكل أنواع الحب الأخرى، ويجب أن يحتل الصدارة في جميع مشاعر المودة. هذا الحب ليس مجرد عاطفة، بل يشمل الطاعة، والعبادة، والتواضع، والشكر، والسعي لنيل رضا الله في كل جانب من جوانب الحياة. عندما يمتلئ قلب الإنسان بالمحبة الإلهية، فإن هذا النور يشع في جميع أبعاد وجوده، ويؤثر على طريقة تعامله مع الآخرين. يصرح القرآن الكريم بوضوح أن محبة الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) يجب أن تكون لها الأولوية على كل محبة أخرى. ففي سورة التوبة، الآية 24، يقول الله: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ". تقدم هذه الآية معيارًا واضحًا لتقييم المحبة؛ لا يعني ذلك أن حب العائلة أو الثروة مذموم، بل يعني أن هذه المحبة يجب ألا تعيق أداء الواجبات الإلهية أو تتقدم على الأمر الإلهي. يجب أن يكون حب الله قويًا لدرجة أنه في لحظات تضارب المصالح، تتقدم إرادة الله على أي رغبة أو ميل آخر. وهذا الترتيب للأولويات لا يفيد الآخرة فحسب، بل يمنح الإنسان السلام والتوجيه الصحيح في حياته الدنيا. من جهة أخرى، يشدد الإسلام بشدة على ضرورة المحبة والإحسان تجاه البشر. تتجلى هذه المحبة بأشكال متنوعة، بما في ذلك الإحسان إلى الوالدين، ومراعاة حقوق الأقارب، ومساعدة المحتاجين، والعدل في التعامل مع جميع الناس، والشفقة على الأيتام والمساكين، وحتى الرفق بالحيوانات. في سورة الإسراء، الآية 23، بعد الأمر بعبادة الله وحده، يأمر فورًا بالإحسان إلى الوالدين: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا". يظهر هذا الارتباط الوثيق بين حق الله وحق الناس أن حب الله، بدون حب خلقه، غير مكتمل. قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله (خلق الله)". يوضح هذا الحديث الشريف أن خدمة البشر وإظهار اللطف لهم هو بحد ذاته شكل من أشكال العبادة وتعبير عن حب الله. يتحقق التوازن الحقيقي عندما ينبع حب البشر ليس من الأهواء الشخصية أو المكاسب الذاتية، بل من أجل الله ولنيل رضاه. وهذا يعني أنه إذا أبعد حب شخص أو شيء الإنسان عن طريق الحق والأمر الإلهي، فيجب تصحيح ذلك. أما إذا كان حب البشر يتماشى مع الأهداف الإلهية، أي أننا نحسن إليهم لنيل الثواب الإلهي، أو نساعدهم لرفع الظلم عنهم، فإن هذا الحب ليس مباحًا فحسب، بل هو مستحب ومثاب عليه. على سبيل المثال، حب الزوجة والأولاد، عندما يكون مصحوبًا بتربيتهم على أساس المبادئ الإلهية ومراعاة حقوق بعضهم البعض، فهو عين العبادة. وبالمثل، عندما ينظر المؤمن إلى المجتمع بمنظور إلهي، فإنه يسعى لإقامة العدل، ومساعدة المظلوم، ومنع الفساد؛ هذه كلها مظاهر لحب الله تتجلى في العمل تجاه البشر. بمعنى آخر، حب الله أشبه بجذر عميق يغذي شجرة الوجود الإنساني، وحب البشر هو الأغصان والأوراق لهذه الشجرة، التي تثمر ثمار الرحمة والعدل والإحسان. فبدون الجذر، تذبل الأغصان، وبدون الأغصان، ستكون الشجرة بلا ثمر. لذلك، لتحقيق التوازن، من الضروري أن ننمي باستمرار المحبة الإلهية في قلوبنا ونظهرها عمليًا تجاه خلقه. هذا النهج يحمي الإنسان من التطرف في كلا المجالين؛ فلا يجعله حبه لله منعزلاً عن المجتمع، ولا يجعله حبه للمجتمع ينسى ذكر الله. كلاهما ضروريان ومتلازمان ويمهدان الطريق للكمال البشري. هذا التناغم بين الحبين لا يمنح الفرد السلام والتوجيه فحسب، بل يضمن الاستقرار والثبات في الحياة الفردية والاجتماعية، ويبني مجتمعًا يقوم على المحبة والعدل والرحمة. إن فهم هذه العلاقة المتبادلة هو مفتاح تحقيق التوازن في حياة المؤمن، ويفتح طريقًا نحو الفلاح والنجاة.
يُروى أن فقيرًا سأل الشيخ سعدي: كيف أن الملوك، بكل ما لديهم من فخامة وجلال، لا يزالون لا يغفلون عن خدمة الدراويش والمساكين؟ ابتسم الشيخ وقال: 'الملك الذي يضيء قلبه بنور المحبة الإلهية، لن يغفل أبدًا عن رعيته. لأنه يعلم أن خدمة الخلق هي عين عبادة الخالق. إذا استقر العشق الإلهي في القلب، انفتحت عين الروح على آلام الآخرين، وصارت يد السخاء بلا حدود. هؤلاء يهتمون بالناس لأنهم يخشون الله، ويعتبرون هذه الخدمة طريقًا إلى رضى المحبوب. فاعلم أن من كان صديقًا لله، كان محسنًا إلى عباده أيضًا، فالمحبة الحقيقية لا تكون إلا هكذا'.