تُكافح الحسد والمنافسة غير الصحية بتقوية الإيمان بالقدر الإلهي، وممارسة الشكر، والتركيز على تزكية النفس والتنافس السليم في الخيرات، والاستعاذة بالله. وفهم زوال الدنيا وقيمة الفضائل هو مفتاح السلام الداخلي.
الحسد والمنافسة غير الصحية هما داءان روحيان عميقان يمكن أن يؤثرا بشدة على الطمأنينة الفردية، والعلاقات الإنسانية، وحتى التقدم الاجتماعي. هذه الصفات غير المرغوبة لها جذور في القلب والنفس البشرية، وإذا لم يتم التحكم فيها، يمكن أن تؤدي إلى تدمير الحياة الفردية والجماعية. في ضوء تعاليم القرآن الكريم النيرة، تم تقديم إرشادات شاملة وحلول عملية لمواجهة هذه الظواهر المدمرة. القرآن لا يدين الحسد فحسب، بل يوضح لنا أيضًا سبل الوصول إلى قلب سليم، وروح مليئة بالقناعة والرضا، وحياة قائمة على التعاون وحب الخير. الحسد، في جوهره، هو شكل من أشكال الاعتراض الصامت أو الصريح على القدر الإلهي وعدم الرضا بما وهبه الله تعالى للفرد. عندما يركز الإنسان على نعم الآخرين ويتمنى في قلبه زوالها، أو يتألم من نجاحاتهم، يكون إيمانه بعدل الله وحكمته ورزقه قد اهتز. وتنشأ المنافسة غير الصحية من هذا الجذر نفسه؛ حيث يكون الهدف هو تجاوز الآخرين بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك إلى تقويض أو إضعاف أو تجاهل حقوق وكرامة الآخرين. هذا النهج، بدلاً من أن يكون بناءً، يؤدي إلى التدمير ويزرع بذور الحقد والعداوة في المجتمع. لعلاج هذه الأمراض الروحية، يقدم القرآن الكريم عدة استراتيجيات أساسية، يمكن لكل منها، منفردة أو مجتمعة، أن تحدث تحولًا عميقًا في نظرة الإنسان وسلوكه. الخطوة الأولى، وربما الأكثر أهمية، هي تقوية الإيمان بالقضاء والقدر الإلهي وحكمة الله في توزيع الأرزاق والنعم. هذا الفهم العميق بأن رزق كل إنسان ومكانته ومواهبه وفرصه هي بيد الله، وأنه سبحانه وتعالى بحكمته اللامتناهية يعطي من يشاء ويمنع عمن يشاء، يزيل الشعور بالظلم أو الحرمان الذي غالبًا ما يكون جذر الحسد. سورة الزخرف، في الآية 32، تصرح بهذه الحقيقة: "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"؛ أي: "أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سُخريًا ورحمة ربك خير مما يجمعون." هذه الآية تعلمنا أن الاختلافات في المعيشة والمكانة جزء من النظام الإلهي للتعاون والابتلاء البشري، ولا ينبغي أن نحسد عليها، بل ينبغي الرضا بها والتوكل على فضل الله. الخطوة الثانية هي ممارسة الشكر والقناعة. الشكر حالة ذهنية وقلبية نشطة تدفع الإنسان، بدلاً من التركيز على ما ينقصه أو مقارنة نفسه بالآخرين، إلى النظر إلى نعمه، مهما كانت قليلة، بعين التقدير والامتنان. عندما يتذكر الإنسان باستمرار النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى في حياته (مثل الصحة، الأسرة، الأمن، الإيمان، إلخ)، لا يترك مجالًا للحسد على ما يمتلكه الآخرون. يؤكد القرآن باستمرار على أهمية شكر النعمة، ويقول في سورة إبراهيم، الآية 7: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ"؛ "لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد." الشكر لا يقضي على الحسد فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى زيادة النعم الإلهية وشعور عميق بالرضا الداخلي. أما القناعة فتعني الرضا بما قسمه الله للإنسان بالعدل والحكمة، دون الطمع فيما في أيدي الآخرين أو تمني زوال النعم عنهم. القناعة تحرر الإنسان من الجشع المفرط وتطهر قلبه من القلق والاضطراب. الخطوة الثالثة هي التركيز على تهذيب النفس والمنافسة الشريفة في الخيرات. يوجهنا القرآن نحو المنافسة في الخيرات والفضائل الإنسانية، وليس في الأمور المادية التي غالبًا ما تؤدي إلى الحسد والعداوة والصراع. ففي سورة البقرة، الآية 148، يقول تعالى: "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ"؛ "ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات." هذا النوع من المنافسة بناء ومثمر؛ حيث يسعى كل فرد إلى التفوق على الآخر في التقوى، والعلم، وخدمة الخلق، والصدق، والعدل، وغيرها من الفضائل الإنسانية، وليس في اكتساب المال أو المكانة الدنيوية بأي ثمن. هذا النهج لا يحد من الحسد فحسب، بل يدفع المجتمع نحو التقدم والتميز والتضامن، ويشجع الأفراد على أن يكونوا عونًا وسندًا لبعضهم البعض في طريق الكمال بدلاً من أن يقوضوا بعضهم البعض. الخطوة الرابعة هي الاستعاذة بالله من شر الحاسد وتقوية الحصن الروحي. يتناول القرآن الكريم هذه المسألة مباشرة في سورة الفلق، يأمر المؤمنين أن يستعيذوا بالله من شر الحاسد إذا حسد: "وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" (الفلق، الآية 5). هذه الآية تشير إلى الخطر الذي يمثله الحسد على الفرد والمجتمع، وتلفت الانتباه إلى ضرورة التوكل على الله والاستعانة به لدفع هذا الشر. الدعاء والمناجاة، والطلب القلبي من الله لتطهير الروح من الحقد والحسد والصفات غير المرغوبة، من أكثر الطرق فعالية لاجتثاث هذه الصفات. ذكر الله، وتلاوة القرآن، والأعمال الصالحة، تخلق حصنًا روحيًا في مواجهة التأثيرات السلبية للحسد. الخطوة الخامسة هي تقوية روح الأخوة والألفة وتجنب الغيبة والنميمة. غالبًا ما يكون الحسد مصحوبًا بالغيبة والنميمة والتشهير وغيرها من الأفعال التي تؤدي إلى تدمير شخصيات الآخرين. ينهى القرآن بشدة عن هذه الأفعال ويؤكد على حفظ كرامة المؤمن والأخوة الإسلامية. ففي سورة الحجرات، الآية 10، يقول تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"؛ "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون." هذا المبدأ الأخوي يهدم أسس الحسد والمنافسة غير الصحية؛ لأن الأخ لا يحسد أخاه، بل يتمنى له الخير ويدعمه في شدائده. تعزيز ثقافة التعاطف والتعاون، بدلاً من المنافسة المدمرة، يخلق بيئة صحية ومليئة بالسلام. الخطوة السادسة هي قبول الاختلافات وعدم تمني ما يمتلكه الآخرون. في سورة النساء، الآية 32، يقول تعالى: "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا"؛ "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليمًا." تنهى هذه الآية صراحة عن تمني زوال النعم من الآخرين أو الحسرة على ما يمتلكونه. بدلاً من ذلك، تشجعنا على طلب فضل الله وأن نسعى لأنفسنا بحصولنا على نصيب من فضله بالجهد المشروع والتوكل، بدلاً من التحديق في ممتلكات الآخرين. هذا النهج لا يزيل الحسد فحسب، بل يفتح بابًا للسعي السليم وكسب الرزق الحلال بالاعتماد على فضل الله، ويساعد الفرد على التركيز على مساره الفريد في الحياة بدلاً من المقارنات غير المجدية. أخيرًا، تذكير الحياة الدنيا وأنها فانية والتركيز على القيم الأبدية أمر بالغ الأهمية. فما يبقى هي الأعمال الصالحة، ورضا الله، والإنجازات الروحية، لا المال والمكانة الزائلة في الدنيا. عندما تستقر هذه الحقيقة في قلب الإنسان وروحه، يفقد بريق الدنيا وما في أيدي الآخرين أهميته. ففي سورة الكهف، الآية 46، يقول تعالى: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"؛ "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملًا." بالتركيز على القيم الأبدية والروحية، يمكننا تحرير أنفسنا من قيود الحسد والمنافسات الدنيوية العقيمة، والوصول إلى الطمأنينة الحقيقية والسعادة الدائمة. هذا المسار يؤدي إلى طهارة القلب، والنمو الروحي، والقرب من الله تعالى، ويجعل الحياة أكثر معنى ورفقًا بالرضا الدائم.
جاء في بستان سعدي أن ملكًا سأل عن أحوال درويش، فقال: «بماذا ينشغل الدرويش؟» فقال أحد الحاضرين، وقد ترسخ الحسد في قلبه: «إنهم جياع ضعفاء لا يعرفون شيئًا عن الدنيا.» فقال درويش حكيم كان هناك، بابتسامة دافئة: «يا أيها الملك، الدرويش الحقيقي هو الذي يشكر على ما عنده، ولا يتحسر على ما يفقده. فهو يستيقظ كل صباح بقلب مطمئن، وينام ليله براحة بال، لأنه يعلم أن رزقه من فضل الله، ولا يطمع فيما عند غيره. منافسة الدرويش الحقيقي هي في العبادة والمعرفة، لا في الجاه ومال الدنيا.» فرح الملك بهذا القول، وأدرك أن السلام الحقيقي يكمن في القناعة وطهارة القلب، لا في الثراء والمنافسات الدنيوية العقيمة.