لحفظ اللسان من الغيبة والبهتان، يجب أن تتحلى بتقوى الله، وتتجنب سوء الظن، وتركز على إصلاح نفسك، وتشغل لسانك بالذكر والكلام الطيب، مع اجتناب مجالس الذنوب.
اللسان، هذا العضو الصغير والقوي في آن واحد، هو أحد أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان. ومع ذلك، فإن هذه النعمة العظيمة يمكن أن تتحول إلى أداة لارتكاب أعظم الذنوب إذا لم يتم حمايتها بعناية وتقوى إلهية. الغيبة والبهتان هما مثالان بارزان لآفات اللسان التي لا تؤدي فقط إلى تدمير الفرد الروحي، بل تقوض أيضًا أسس الثقة والترابط الاجتماعي. القرآن الكريم، بأسلوبه البليغ والقوي، يحذر المؤمنين بشدة من هذه الذنوب العظيمة ويقدم حلولاً عملية لحفظ اللسان. من منظور قرآني، الغيبة تعني ذكر عيب في شخص آخر في غيابه، مما يكره سماعه حتى لو كان ذلك العيب حقيقياً. يشبه الله تعالى في سورة الحجرات، الآية 12، الغيبة بأكل لحم الأخ الميت: "...وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَّعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ..." هذا التشبيه البشع للغاية يظهر مدى كراهية الله لهذا الفعل. تخيل مدى الاشمئزاز من أكل لحم إنسان ميت، وبالأخص أخيك؛ فالغيبة مكروهة ومستقبحة بنفس القدر في نظر الله. أما البهتان (الافتراء)، فهو ذنب أعظم وأكثر فظاعة؛ لأنه بالإضافة إلى ذكر العيب، يتضمن الكذب ونسبة الباطل إلى شخص آخر، مما يؤدي إلى عواقب وخيمة للغاية في الدنيا والآخرة ويدمر سمعة الأفراد وشرفهم بالكامل. ينهى القرآن بشدة في مواضع متعددة عن الافتراء واختلاق الأكاذيب، ويعتبرها عملاً شيطانياً. في سورة النور، الآية 15، نقرأ: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ"؛ أي عندما تتلقون كلاماً ليس لكم به علم بألسنتكم، وتقولونه بأفواهكم وتظنونه هيناً، وهو عند الله عظيم. توضح هذه الآية بجلاء أن ذنب نشر الأكاذيب والبهتان عظيم جداً وثقيل عند الرب. لحفظ اللسان من هذه الآفات المدمرة، الخطوة الأولى والأهم هي **تقوى الله ومراقبته**. عندما يصل الإنسان إلى هذا اليقين العميق بأن الله يراقب باستمرار أعماله وأقواله، وأن كل كلمة تخرج من فمه تسجل بدقة من قبل الملائكة الكرام (سورة ق 50:18: "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ")، فإنه بطبيعة الحال يزداد حرصه على حماية لسانه. هذه التقوى تشكل سداً منيعاً ضد وساوس الشيطان للغيبة والبهتان. السبيل الثاني والأساسي، هو **تجنب سوء الظن**. يقول القرآن في نفس الآية 12 من سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ..."؛ يا أيها الذين آمنوا! اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم. سوء الظن هو أصل كثير من الغيبة والبهتان. عندما نسيء الظن بشخص ما، نبدأ لا شعورياً في التجسس على أموره، ثم عند العثور على عيب أو حتى اختلاقه، نقوم بالغيبة أو البهتان. كما أن تجنب التجسس المذكور في تكملة هذه الآية، يعتبر مكملاً لهذه الطريقة. **الثالث، التركيز على عيوب النفس وتزكيتها**. الإنسان العاقل والمؤمن، بدلاً من البحث عن عيوب الآخرين، يسعى جاهداً لإصلاح نفسه. هذا النهج لا يؤدي فقط إلى التقدم الروحي للفرد، بل يسلبه أيضاً الفرصة للغيبة والبهتان. عندما يبذل الفرد كل جهده لتزكية نفسه وطهارة روحه وأخلاقه، فإنه لن يجد وقتاً ولا رغبة في الحديث عن الآخرين. **الرابع، شغل اللسان بالقول الطيب وذكر الله**. من أفضل الطرق لمنع الغيبة والبهتان، أن نملأ ألسنتنا بكلام الحق، وتلاوة القرآن، والدعاء، والأذكار، والنصائح الحسنة. فمتى انشغل اللسان بذكر الله، قلّت حركته نحو الباطل والمعصية. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت." هذا الحديث النبوي، المستمد من روح التعاليم القرآنية، يؤكد على الأهمية الكبرى للكلام ومسؤولية الإنسان تجاهه. الصمت في الأوقات التي لا يجلب فيها الكلام إلا الذنوب، فضيلة عظيمة بحد ذاتها. **الخامس، اجتناب مجالس الغيبة والبهتان**. يقول القرآن في سورة النساء، الآية 140: "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ"؛ وقد أنزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذاً مثلهم. ومع أن هذه الآية تتحدث تحديداً عن الكفر والاستهزاء بآيات الله، إلا أنه يمكن استنتاج مبدأ عام منها للابتعاد عن المجالس التي ينتشر فيها الذنب. فالتواجد في مجالس الغيبة بمرور الوقت يؤدي إلى تطبيع هذا الذنب والمشاركة فيه بشكل غير مقصود. **السادس، التوبة والتعويض**. إذا وقع شخص ما في الغيبة أو البهتان، عن غير قصد أو عن قصد، فعليه أن يتوب توبة نصوحاً فوراً، ويطلب المغفرة من الله تعالى، وإذا أمكن دون أن يتسبب في مفسدة أكبر، فليطلب المسامحة من الشخص الذي اغتابه أو افترى عليه، وليكثر من الدعاء والاستغفار له. في الختام، إن حفظ اللسان من الغيبة والبهتان يتطلب وعياً ذاتياً مستمراً ويقظة دائمة. هذا الأمر لا يسهم فقط في صحة الروح والنفس للفرد، بل يؤدي أيضاً إلى بناء مجتمع أكثر صحة، يسوده المزيد من الثقة والمحبة والصداقة. اللسان أداة لإيصال الرسالة الإلهية، والدعوة إلى الخير، وإقامة علاقات بناءة؛ فلنستغل هذه النعمة بالطريقة الصحيحة لنكون من الفائزين في الدنيا والآخرة.
يُروى أن ملكاً سأل وزيراً حكيماً ذات يوم: "أيها الوزير، ما بك تحرص على صمتك كل هذا الحرص؟ أليس في الكلام حكمة تُنشر؟" فأجاب الوزير بهدوء: "أيها الملك، لقد رأيت أن كثيراً من البلاء والهموم تنبع من اللسان، وقليلاً ما تضيع حسنة بسبب الصمت. فالكلمة إذا خرجت من الفم، صارت كالسهم إذا انطلق من القوس لا يعود. وكثيراً ما تجلب الكلمة التي تُقال بعجلة أو دون تفكير الندم والعداوة. لذلك، أفضل أن أزن كلامي وكأنه ذهب؛ فإن لم أجد فيه خيراً، حبسته في خزانة قلبي. فأن تبقى صامتاً ويظنك الناس جاهلاً، خير لك من أن تتكلم فتزيل كل شك في جهلك." أدرك الملك عمق هذه الكلمات الحكيمة ومنذ ذلك اليوم، أصبح هو نفسه أكثر حرصاً على لسانه، مدركاً أن اللسان، وإن صغر، يمكنه أن يبني أو يهدم ممالك، صداقات، بل وحتى سلام الروح.