هل الزهد يعني ترك الدنيا؟

الزهد الحقيقي في الإسلام لا يعني التخلي المطلق عن الدنيا، بل يعني عدم التعلق القلبي بها واستخدام نعم الدنيا الحلال في سبيل الله وللآخرة. الزاهد يعيش ويعمل في الدنيا، لكن قلبه لا يستعبده.

إجابة القرآن

هل الزهد يعني ترك الدنيا؟

إن فهم مفهوم "الزهد" في الإسلام، وخاصة من منظور القرآن الكريم، دقيق وعميق للغاية، وغالبًا ما يرتبط بمفاهيم خاطئة. يعتقد الكثيرون خطأً أن الزهد يعني التخلي المطلق عن الدنيا، والابتعاد عن الفرص المادية، والعزلة عن المجتمع. ولكن بالتأمل في آيات القرآن النورانية، نجد أن هذا التصور بعيد كل البعد عن حقيقة الزهد الإسلامي. فالزهد الحقيقي في الإسلام لا يعني التخلي عن الدنيا، بل يعني عدم التعلق القلبي بها وعدم الاستعباد لمظاهرها المادية؛ بمعنى أن تكون الدنيا وسيلة للوصول إلى الآخرة، لا الغاية النهائية. يوازن القرآن الكريم دائمًا بين الحياة الدنيا والآخرة. فالله تعالى في آيات عديدة يشجع الإنسان على الاستفادة من الطيبات الحلال في الدنيا، بشرط ألا يؤدي هذا الاستفادة إلى الإفراط والعدوان، وألا يلهي الإنسان عن ذكر الله وواجباته الأساسية. ومن أوضح الآيات في هذا الصدد، الآية 77 من سورة القصص التي تقول: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ". هذه الآية تُظهر بوضوح أنه لا يُنصَح بترك الدنيا فحسب، بل إن الاستفادة منها والاستخدام الصحيح للموارد لتحقيق السعادة الأخروية أمر مرغوب فيه. في الحقيقة، الدنيا جسر يجب عبوره، وليست مكانًا للإقامة والتعلق به. من ناحية أخرى، ينهى القرآن بشدة عن الإفراط في أي مجال، بما في ذلك الإفراط في التعلق بالدنيا أو الإفراط في الزهد وحرمان النفس من الطيبات. ففي سورة الأعراف، الآيتين 31 و 32، يقول الله تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ". تُدين هذه الآيات صراحةً أي تحريم لنعم الله الحلال، وتؤكد أن للمؤمنين الحق في الاستمتاع بجمال الدنيا وطيباتها، بشرط الاعتدال وتجنب الإسراف. لذا، فالزهد القرآني ليس منهجًا سلبيًا تجاه الدنيا؛ بل هو منهج واقعي ومسؤول. الزاهد ليس من يهرب من الدنيا، بل هو من يعيش فيها، ويعمل، وينتج، ويخدم المجتمع، لكن قلبه لا يتعلق بها. إنه يعلم أن الدنيا ممر وأن الهدف الرئيسي هو رضوان الله والوصول إلى الآخرة الحسنة. إنه يستفيد من المال والثروة لكنه لا يستعبد لها؛ ينفقها في سبيل الله، ويساعد الأيتام والمساكين، ويؤدي الحقوق الإلهية. هذا النوع من الزهد، بدلاً من العزلة، يؤدي إلى مشاركة فاعلة وبناءة في المجتمع، لأن الزاهد يرى الدنيا مزرعة للآخرة، ويعتبر كل جهد فيها فرصة لكسب رضوان الله. وفي سورة الحديد، الآية 20، يصف القرآن طبيعة الدنيا الفانية بقوله: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". تحذر هذه الآية من أن التعلق المفرط بالدنيا ونسيان الآخرة لا يؤدي إلا إلى الخداع والندم. لكن هذا لا يعني التخلي عن الدنيا، بل يعني فهم مكانتها الصحيحة وعدم الاغترار بمظاهرها الخادعة. إذن، الزهد الحقيقي في القرآن هو عدم الرغبة القلبية في مظاهر الدنيا الفانية، لا الخمول فيها. الزاهد هو من يكون مع وجوده في الدنيا، متحررًا منها؛ ومع وجوده بين الناس، متحررًا من تعلقاتها. هذا النوع من الزهد يجعل الإنسان أكثر قوة ليعمل في الدنيا وفقًا للموازين الإلهية وينشر الخير. هذه حالة روحية وقلبية تحرر الفرد من الجشع والطمع وتسمح له باستخدام نعم الله بشكل صحيح وفي سبيل رضاه، دون أن تصبح الدنيا غاية له وتصرفه عن المسار الرئيسي للعبودية. وهذا المفهوم للزهد يدفع الإنسان نحو التوازن، القناعة، السخاء، والمسؤولية الاجتماعية، وليس نحو الانعزال والفقر الاختياري غير المثمر.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في يوم من الأيام، زار ملك درويشًا، فوجده مرحًا ومطمئن البال رغم فقره الظاهر. فسأل الملك، الذي كان يعيش في رغد كامل، بتعجب: «يا درويش، كيف بك مع هذا النزر اليسير من الدنيا، هادئ البال ولا يساورك أي هم؟» ابتسم الدرويش وأجاب: «يا أيها الملك، راحة البال لا تكمن في امتلاك الدنيا ولا في التخلي المطلق عنها والابتعاد عن الناس. بل هي في ألا تجعل قلبك أسيرًا للدنيا، وأن تعتبر كل ما تملك أمانة من الله، وأن ترى الدنيا مزرعة للآخرة. أنا أعيش بما لدي، وأنا شاكر، وقد حررت قلبي من التعلقات؛ لا أن أدير ظهري للدنيا فلا يستفيد منها أحد وأنسى مسؤولياتي، ولا أن أغرق فيها فأنسى الله.» استوعب الملك هذا القول الحكيم وعرف أن الزهد الحقيقي يكمن في غنى القلب والاستخدام الصحيح للنعم، لا في إفراغ اليد من الدنيا والعزلة.

الأسئلة ذات الصلة