من منظور قرآني، الرضا بما نملك (القناعة) هو شكل عميق من التقدم الروحي والنفسي والأخلاقي. يؤدي هذا الرضا المقترن بالشكر إلى زيادة البركات، ويجلب السلام الداخلي، ويحرر المرء من الجشع والطمع.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية، يحتل مفهوم «الرضا بما نملك» أو «القناعة» مكانة خاصة، ويمكن اعتباره ليس فقط فضيلة أخلاقية، بل نوعاً من التقدم العميق والمستدام. التقدم من منظور القرآن لا يعني مجرد تكديس الثروات، أو نيل المناصب الدنيوية، أو تحقيق التطورات التكنولوجية؛ بل هو تقدم يشمل الأبعاد الروحية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية للإنسان، ويوجهه نحو الكمال الحقيقي، ألا وهو القرب الإلهي. الرضا بما نملك، في هذا السياق القرآني، هو مفتاح لفتح باب السكينة الداخلية والتحرر من قيود الجشع والطمع والمقارنات اللانهائية مع الآخرين. يؤكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً على مفهوم الشكر. في سورة إبراهيم، الآية 7، يقول الله تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»؛ هذه الآية توضح بجلاء أن الشكر، الذي هو شرط أساسي للرضا بما يملك الإنسان، لا يساعد فقط على الحفاظ على النعم، بل يؤدي أيضاً إلى زيادتها. هذه الزيادة هي بحد ذاتها نوع من التقدم؛ تقدم يمكن أن يكون مادياً (زيادة بركات الحياة) وروحياً (زيادة البصيرة، السكينة، والرضا القلبي). فالذي يرضى بما لديه ويشكر، يرى دائرة البركات الإلهية تتسع حوله، ومن ثم، فإنه يسير في طريق التقدم الحقيقي. أحد أهم أبعاد التقدم هو الصحة النفسية والاطمئنان القلبي. في عالم اليوم الذي يعاني فيه الكثيرون من القلق والتوتر بشأن ما يفتقرون إليه، يوفر الرضا بما نملك ملاذاً آمناً وقوياً. يقول القرآن الكريم في سورة الرعد، الآية 28: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»؛ ذكر الله والتوكل على قضائه وقدره هما أساس القناعة والرضا. فعندما يعلم الإنسان أن رزقه بيد الله، وأن ما أصابه فيه حكمة، يطمئن قلبه ويتحرر من الهموم العابثة. هذا الاطمئنان القلبي والسكينة الداخلية هما بلا شك قمة التقدم في الصحة النفسية الفردية، لأنه ينقذ الإنسان من فخ الجشع والمنافسة غير الصحية، ويمكنه من المضي قدماً نحو أهداف أسمى بعقل وروح أكثر صحة. التقدم الحقيقي يستلزم التحرر من عبودية الماديات والتعلقات الدنيوية. الرضا بالملك لا يعني التخلي عن السعي وعمارة الأرض، بل يعني النظرة الواقعية إلى الدنيا وعدم الغرق فيها. يقول القرآن الكريم في سورة القصص، الآية 77: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»؛ هذه الآية تقيم توازناً جميلاً بين السعي للآخرة والاستمتاع المشروع بالدنيا. الرضا بما نملك يضمن بقاء الإنسان بعيداً عن الجشع والإفراط في الطمع، اللذين هما مصدر العديد من الفساد والظلم. عندما يعيش الفرد بحد الكفاية ويشكر الله، فإنه أقل عرضة للانجراف نحو الظلم والتعدي على حقوق الآخرين. وهذا بحد ذاته تقدم أخلاقي واجتماعي كبير يسهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً ورحمة. علاوة على ذلك، فإن الرضا والقناعة يهيئان الإنسان لقبول القضاء الإلهي والصبر على المصاعب. الصبر، مثل الشكر، هو من الفضائل القرآنية العظيمة التي تنتج عنها مكافآت إلهية هائلة ونمو روحي. فعندما يتقبل الإنسان أن بعض الأمور ليست تحت سيطرته ويرضى بمشيئة الله، يصبح أكثر مرونة في مواجهة الشدائد، وهذه المرونة تحوله إلى شخص أقوى وأكثر إيماناً. هذه المرونة والقوة الداخلية هي بلا شك نوع من التقدم في شخصية الإنسان وروحه. في الختام، يمكن القول إن الرضا بما نملك من منظور القرآن هو خطوة مهمة وأساسية في طريق التقدم الحقيقي. هذا التقدم لا يؤدي فقط إلى السكينة الفردية والصحة النفسية، بل يؤدي أيضاً إلى زيادة البركات المادية والروحية، وتعزيز الأسس الأخلاقية والاجتماعية، وفي النهاية، الاقتراب من الكمال البشري المنشود، وهو رضا الله تعالى. لذلك، نعم، الرضا بما نملك ليس نوعاً من التقدم فحسب، بل هو ربما أعمق وأكثر أشكال التقدم استدامة، الذي ترتكز جذوره بقوة في قلب الإيمان والشكر الإلهي.
ذات يوم، روى الشيخ الجليل، سعدي الشيرازي، أنه أثناء حجه رأى رجلاً فقد قدميه وكان يمشي على يديه. ففكر سعدي في نفسه: «يا له من مسكين! أي مصيبة حلت به.» ولكن بعد قليل، دخل مسجداً ورأى رجلاً لم يكن لديه قدمين فحسب، بل كان أعمى أيضاً. في تلك اللحظة، سجد سعدي فوراً شكراً لله وشعر بالخجل من فكرته السابقة، قائلاً: «يا ربي! الشكر لك لأنك منحتني نعمة البصر وصحة القدمين.» وهكذا، تعلم درساً عميقاً في القناعة والرضا بما لدينا. تعلمنا هذه الحكاية الجميلة أنه يجب علينا دائماً أن ننظر إلى ما نملكه ونكون شاكرين، بدلاً من التحديق فيما نفتقده. هذا الرضا والشكر يفتحان باباً للسلام الداخلي والتقدم الحقيقي في الحياة، ويذكراننا بأن السعادة لا تكمن في مقارنة أنفسنا بالآخرين، بل في إدراك قيمة نعمنا.