هل من الممكن أن يمتلك الإنسان كل شيء ومع ذلك يشعر بالفراغ؟

نعم، يعلم القرآن أن امتلاك جميع المتع المادية وحدها لا يضمن السكينة والرضا. إن الفراغ من ذكر الله والروحانية، حتى في أوج الثراء، يؤدي إلى خواء وقلق، لأن القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله.

إجابة القرآن

هل من الممكن أن يمتلك الإنسان كل شيء ومع ذلك يشعر بالفراغ؟

إن فهم مفهوم 'امتلاك كل شيء' و'الشعور بالفراغ' من منظور القرآن الكريم يمنحنا رؤية عميقة ومختلفة عما قد يبدو للوهلة الأولى. في مجتمعاتنا المعاصرة، غالبًا ما يُعتقد أن تحقيق الثروة الطائلة، والقوة، والشهرة، والجمال، والنجاح المهني، والعلاقات الاجتماعية المثالية، يمكن أن يضمن السعادة والرضا المطلقين. وسائل الإعلام والثقافة السائدة تبث هذه الرسالة، موحية بأن الوصول إلى هذه الأهداف المادية يقود الإنسان إلى الكمال والسعادة. ومع ذلك، فإن القرآن، كتاب الهداية الإلهية، يعلمنا أن هذا 'الكل شيء' في تعريفه المادي والدنيوي، هو مجرد زينة زائلة وأداة للاختبار، ولا يمكن أبداً أن يحل محل الاحتياجات الروحية والمعنوية العميقة للإنسان. في الواقع، قد يكون شخص ما في أوج العظمة المادية، ولكنه يشعر بالفراغ والخواء بسبب فراغ روحي وانعدام الصلة بالمصدر الحقيقي للطمأنينة. هذه الظاهرة، التي تُشاهد بكثرة في العالم الحديث، هي دليل على صحة التعاليم القرآنية التي تعتبر السعادة الحقيقية شيئًا يتجاوز الإنجازات الدنيوية. القرآن يشير مرارًا وتكرارًا إلى طبيعة الحياة الدنيا الفانية والزائلة. ففي سورة الكهف، الآية 46، يقول تعالى: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"، أي: "المال والأبناء زينة الحياة الدنيا؛ والباقيات الصالحات خير ثوابًا عند ربك وخير أملًا". هذه الآية توضح بجلاء أن ما نسميه 'كل شيء' (مثل الثروة والأبناء) هي مجرد مظاهر خارجية وزائلة للحياة. قد تكون هذه الأمور جذابة، لكنها تفتقر إلى القيمة الجوهرية والديمومة لتوفير السلام الداخلي والرضا الأبدي. الاعتماد المطلق على هذه الزينة يحرف الإنسان عن الهدف الأساسي من الخلق والمسار الحقيقي للسعادة. لهذا السبب، بدلاً من التعلق التام بالدنيا، يؤكد القرآن على 'الباقيات الصالحات'؛ وهي الأعمال الصالحة التي تحمل ثمارًا حقيقية ومستدامة وتكون مفيدة في الدار الآخرة. بدون هذا الاهتمام بالأبدية والعمل الصالح، سيبقى قلب الإنسان، حتى لو كان محاطًا بالثروات، مضطربًا وقلقًا. الفراغ، هنا، يعني غياب السلام الداخلي، وفقدان المعنى والهدف في الحياة، والشعور العميق بعدم الرضا، حتى لو تم تلبية جميع الاحتياجات المادية. قلب الإنسان، وفقًا لتعاليم القرآن، لا يطمئن إلا بذكر الله. ففي سورة الرعد، الآية 28، يقول تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"؛ أي: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب". هذه الآية تكشف سر السعادة والطمأنينة الحقيقية. إذا كان الإنسان في أوج مجده المادي، ولكن قلبه غافل عن ذكر الله وبعيد عن الروحانية، فلن يتذوق طعم الطمأنينة الحقيقية أبدًا. هذا الغفلان، يشبه فراغًا عميقًا في داخله، يلتهم جميع الملذات المادية ويواجهه بشعور دائم بالعبثية والقلق. هذا الفراغ هو في الواقع نتيجة لعدم الاتصال بالمصدر اللانهائي للوجود والحب الإلهي، وهو المصدر الوحيد للراحة والرضا الحقيقيين. في سورة الحديد، الآية 20، يُقدم أيضًا تصوير واضح لطبيعة الحياة الدنيا: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"؛ "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًا ثم يكون حطامًا. وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور". هذه الآية توضح بجلاء أن حتى 'التكاثر في الأموال والأولاد' (الذي يمكن اعتباره 'امتلاك كل شيء' من المنظور الدنيوي) يؤدي في النهاية إلى الزوال والفراغ، ما لم يكن مصحوبًا بالنظر إلى الآخرة والسعي لرضا الله. إن التنافس لجمع المزيد والمزيد يدفع الإنسان إلى نسيان الهدف الأساسي من الحياة ويوقعه في النهاية في سجن من الجشع والطمع، الذي لا يثمر إلا القلق والاضطراب. لذلك، من منظور القرآن، لا يعني امتلاك كل شيء مادي بالضرورة الشبع الروحي والسلام الداخلي. بل إن هذه الكثرة، إذا لم تكن مصحوبة بالروحانية وذكر الله، قد تجلب معها أعباء ومسؤوليات أكبر وتُبعد الإنسان عن حقيقته الوجودية. من يملك كل شيء ظاهريًا، ولكنه غافل عن ذكر الله، هو في الواقع أفقر الناس، لأنه حُرم من المصدر الوحيد للراحة والمعنى الحقيقي للحياة. في المقابل، قد يكون الفرد فقيرًا ماديًا، لكن قلبه يفيض بالإيمان، وذكر الله، والأعمال الصالحة، فهو الإنسان الأكثر غنى وكمالًا. هذا هو سر الرضا والهدوء الذي يمكن رؤيته على وجوه الفقراء والسائرين الحقيقيين على الدرب الإلهي، بينما يعاني العديد من الأثرياء والأقوياء في العالم، رغم كل إمكانياتهم، من الاكتئاب والقلق. يعلمنا القرآن الكريم أن السعادة الحقيقية ليست فيما 'نمتلك'، بل فيما 'نكونه' و'كيف نتصرف بما لدينا'، والأهم من ذلك، في جودة علاقتنا بخالق الوجود. هذه الرؤية ليست مجرد فلسفة نظرية، بل هي دليل عملي لتحقيق حياة مليئة بالمعنى والسلام الدائم.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في يوم من الأيام، كان ملك ثري وقوي غارقاً في أفكاره داخل قصره. على الرغم من كل ثرواته وحاشيته، كان يفتقر إلى السلام ودائمًا ما كان حزيناً. سمع أن في تلك المدينة، هناك درويش بسيط وفقير يمتلك قلبًا سعيدًا وروحًا مليئة بالسكينة. استدعى الملك الدرويش وسأله: "يا درويش، أنا الذي أملك كل شيء، لماذا أفتقر إلى السلام، وأنت لا تملك شيئًا ومع ذلك أنت سعيد ومرتاح؟" أجاب الدرويش بابتسامة لطيفة: "يا ملك، أنت تملك كل شيء، ولكنك تخشى باستمرار فقدانه؛ بينما أنا لا أملك شيئًا أخسره، وقد أوكلت قلبي إلى من يملك كل شيء. الراحة تكمن في عدم وجود هموم وتعلقات، وليس في امتلاك المزيد والمزيد. القلب الهادئ كنز لا يُقاس بالذهب والفضة، بل بذكر الله." فكر الملك وأدرك أن الفراغ من ذكر الله والقناعة، حتى مع امتلاك الدنيا، يحرم الإنسان من الكنز الحقيقي للسلام.

الأسئلة ذات الصلة