نعم، يمكن البقاء طاهراً وصالحاً في عالم اليوم. يتحقق ذلك بالتمسك بالتقوى، والإيمان، والصبر، والصلاة، والعمل الصالح، فكلها حلول قرآنية لمواجهة التحديات الحديثة.
في عالم اليوم المليء بالتحديات، حيث نواجه يومياً إغراءات جديدة وضغوطاً اجتماعية واتجاهات عصرية، قد يتساءل الكثيرون عما إذا كان بالإمكان حقاً الحفاظ على النقاء والاستقامة. القرآن الكريم، بتوجيهاته الشاملة والمبدئية، لا يقدم إجابة إيجابية على هذا السؤال فحسب، بل يوفر أيضاً حلولاً عملية وأساسية لتحقيق ذلك. في الواقع، يرى الإسلام أن النقاء والاستقامة ليسا ممكنين فحسب، بل ضروريين للحياة الطيبة والسعادة في الدنيا والآخرة. الركن الأول والأهم للحفاظ على النقاء والاستقامة في أي عصر هو "التقوى"، وهي خشية الله والورع. تعني التقوى الوعي الذاتي الدائم والمراقبة المستمرة للأعمال والنوايا في مواجهة الله. فالشخص الذي يؤمن بقلبه بحضور الله الدائم، ويعلم أن شيئاً لا يخفى عنه، يحافظ على نفسه بعيداً عن الخطيئة، حتى في الخلوة وعند مواجهة أشد الإغراءات. يشير القرآن في آيات عديدة إلى أهمية التقوى ويعتبرها معيار تفضيل الناس، كما في سورة الحجرات الآية 13: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ". في عالم اليوم حيث قد تتلاشى الحدود الأخلاقية، تعمل التقوى كدرع حصين يمنع الفرد من الوقوع في الفساد والباطل. العامل الثاني هو "الإيمان الصادق والعمل الصالح". الإيمان ليس مجرد اعتقاد قلبي، بل يجب أن يتجلى في أفعال الإنسان وسلوكه. يذكر القرآن دائماً الإيمان والعمل الصالح جنباً إلى جنب. يشمل العمل الصالح كل عمل طيب يرضي الله، ويشمل الصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان للآخرين، والابتعاد عن الغيبة، والنميمة، والرياء، والخداع. في عالمنا المعاصر، حيث يسعى الكثيرون وراء المكاسب المادية العابرة وقد يستخدمون وسائل غير مشروعة لتحقيقها، يجب على المؤمن الحقيقي، بالتمسك بالمبادئ الإلهية، أن يمارس الاستقامة في تعاملاته، وعلاقاته الاجتماعية، وحتى في استخدامه للتقنيات الحديثة. فالتقنيات يمكن أن تكون أدوات لنشر الخير أو الشر؛ والإنسان هو الذي يختار كيفية استخدامها. فالشخص الصالح يستخدم هذه الأدوات لنشر الحق والخير ويتجنب نشر الكذب والفساد. "الصبر والثبات" هو الركن الثالث للحفاظ على النقاء. فحياة اليوم مليئة بالضغوط والتحديات؛ من الضغوط الاقتصادية إلى تأثير الثقافات غير الدينية وتشجيع الملذات العابرة. في مثل هذه الظروف، لا يمكن البقاء مستقيماً بدون صبر وثبات. يقول الله تعالى في سورة العصر: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ". هذه الآية توضح بجلاء أن طريق النجاة والفلاح، مصحوب بالدعوة إلى الحق والصبر. فالصبر في مواجهة الإغراءات، والصبر على الطاعات، والصبر في مواجهة المصائب، كلها من ضروريات العفة والاستقامة في عالم اليوم. في مواجهة العواصف الفكرية والثقافية، يعد الصبر والثبات مرساة النجاة. "الصلاة وذكر الله" أيضاً من أهم وسائل الحفاظ على النقاء الداخلي والخارجي. فالصلاة هي اتصال مباشر بالله يغذي الروح ويمنع الفحشاء والمنكر، كما جاء في سورة العنكبوت الآية 45: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ". الذكر الدائم لله وتذكر حضوره، يخلق في الفرد حالة من المراقبة الذاتية المستمرة. في مجتمع قد يصبح فيه الفساد والانحراف الأخلاقي أمراً طبيعياً، تفصل الصلاة والذكر المؤمن عن هذا التيار السائد وتمنحه القوة على الصمود. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هو جانب اجتماعي للحفاظ على النقاء. فالاستقامة لا تعني فقط الحفاظ على طهارة النفس، بل تشمل أيضاً السعي لتحقيق طهارة البيئة والمجتمع. فالمؤمن الحقيقي ليس لامبالياً ويسعى بلسانه وعمله لدعوة الآخرين إلى الخير ونهيهم عن الشر، ولكن بحكمة وموعظة حسنة. هذه المسؤولية الاجتماعية تخلق مجتمعاً أكثر صحة وبيئة أكثر ملاءمة للحفاظ على النقاء الفردي. في الختام، إن العيش في عالم اليوم، بالرغم من تعقيداته وتحدياته العديدة، ليس بأي حال من الأحوال عائقاً أمام النقاء والاستقامة. بل هو فرصة للارتقاء الروحي وإثبات قوة الإيمان. القرآن الكريم، بآياته، يقدم خريطة طريق دقيقة لحياة مليئة بالتقوى، والإيمان، والصبر، والعمل الصالح. وبالتمسك بهذه المبادئ والالتجاء إلى الله، يمكن للإنسان أن يظل ثابتاً على طريق النقاء والاستقامة في كل زمان ومكان، وأن ينعم بالسلام الداخلي والرضا الإلهي. هذا الطريق، وإن تطلب جهداً ومجاهدة، إلا أن ثماره في الدنيا والآخرة لا تحصى ويضمن السعادة الحقيقية للإنسان. لذلك، يمكن القول إن البقاء على درب الاستقامة والنقاء في عالم اليوم ليس حلماً بعيد المنال، بل هو حقيقة ممكنة وضرورية لكل فرد مسلم، بالاستفادة من تعاليم القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم (ص). هذا الثبات لا يعني الانعزال عن المجتمع، بل يعني الحضور الفعال والمؤثر فيه مع الحفاظ على المبادئ الإلهية والقيم الأخلاقية. يمكن للمؤمن أن يكون نوراً للأمل ونموذجاً للنقاء وسط ظلمات وإغراءات العالم الحديث، وهذا بحد ذاته سيجلب مكافأة عظيمة من الرب. فبالتوكل على الله والالتزام بأوامره، يمكن للمرء أن يحافظ على نقاء قلبه وعمله في كل الظروف.
في مدينة شيراز، كان يعيش تاجر يُدعى فريدون، اشتهر بأمانته واستقامته التي لا مثيل لها. في سوق كان الكثيرون فيه يغشون بضائعهم أو يتلاعبون بالأوزان والمقاييس لتحقيق ربح أكبر، كان فريدون دائماً يقدم بضائع ذات جودة عالية ولم ينحرف قط عن طريق العدل. كان بعض التجار يسخرون منه قائلين: 'فريدون يتخلف عن ركب الربح!' لكن فريدون كان يبتسم ويجيب: 'ربح الدنيا زائل، ولكن السمعة الطيبة ورضا الحق باقيان.' مرت السنون وتغيرت الأيام. بدأ الزبائن، الذين ضاقوا ذرعاً بغش الآخرين، يتوافدون على متجر فريدون. انتشرت شهرته في النقاء والاستقامة حتى أصبح الناس من القريب والبعيد يثقون به في مشترياتهم. في نهاية المطاف، وجد فريدون حياة مليئة بالشرف والاحترام، مباركاً في تجارته وهادئاً في قلبه، بينما أفلست منافسوه المخادعون الواحد تلو الآخر وتدهورت سمعتهم الطيبة. هذه القصة الجميلة تعلمنا أن الاستقامة والنقاء في أي زمان، مهما بدت صعبة، تؤدي في النهاية إلى السعادة والكرامة.