الشعور بالمنافسة ليس خاطئاً في جوهره؛ فالقرآن يشجع على التنافس في الخيرات والأعمال الصالحة. لكن المنافسة على التكاثر الدنيوي، والحسد، والتعالي مذمومة بشدة لأنها تحرف الأفراد عن الطريق الصحيح وتضر بالعلاقات الإنسانية.
الشعور بالمنافسة هو جانب معقد وعميق الجذور في الطبيعة البشرية، وقد لعب دوراً مهماً في الحياة الفردية والاجتماعية للبشر على مر التاريخ. القرآن الكريم، بصفته كتاب الهداية الإلهية، ينظر إلى هذا الجانب من وجود الإنسان بنظرة دقيقة ومميزة، ويقسم المنافسة إلى قسمين رئيسيين: منافسة بناءة ومنافسة هدامة. والإجابة على سؤال ما إذا كان الشعور بالمنافسة مع الآخرين خاطئاً، يتوقف على فهم هذين النوعين من المنافسة وأهدافهما ونتائجهما من منظور القرآن. في الرؤية القرآنية، المنافسة التي تهدف إلى اكتساب الفضائل الأخلاقية، وأداء الأعمال الصالحة، والسباق في الخيرات، والتقرب إلى الله، ليست خاطئة على الإطلاق، بل هي مشجعة ومؤكد عليها بشدة. يدعو القرآن صراحة المؤمنين في آيات متعددة إلى "الاستباق في الخيرات". على سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية ١٤٨ يقول تعالى: "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" أي "ولكل أمة وجهة يتوجهون إليها في صلاتهم، فسارعوا أنتم -أيها المؤمنون- في فعل الخيرات واجتناب المنهيات. أينما تكونوا يجمعكم الله للحساب يوم القيامة، إن الله على كل شيء قدير." وكذلك في سورة المائدة، الآية ٤٨ نقرأ: "...فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" أي "...فسارعوا إلى فعل الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعًا فيخبركم بما كنتم تختلفون فيه من أمر دينكم." هذه الآيات توضح بجلاء أن المنافسة في أداء الأعمال الصالحة، واكتساب العلم، وخدمة البشرية، والتقوى، وكل ما يرضي الله ويساهم في التقدم الروحي والأخلاقي للإنسان والمجتمع، أمر مرغوب فيه ومحمود. هذا النوع من المنافسة هو محرك قوي للتنمية الذاتية، والتقدم، والرقي الفردي والاجتماعي. عندما يتنافس الإنسان في الفضائل الأخلاقية مثل الكرم، والصبر، والعدل، والرحمة، والصدق، والأمانة، فإنه لا يخدم نفسه وروحه فحسب، بل يصبح أيضاً قدوة حسنة للآخرين، ويساهم في النهاية في نمو وازدهار المجتمع بأكمله. هذه المنافسة تخرج الإنسان من الركود واللامبالاة وتدفعه نحو آفاق روحية وإنسانية أسمى. الهدف في هذا النوع من المنافسة ليس إسقاط الآخرين، بل رفع الذات، وتشجيع الآخرين على الخير والفضيلة؛ لأن كل فرد في هذا المضمار يرى نجاح الآخر ليس تهديداً لنفسه، بل دافعاً لنموه الخاص. في المقابل، يدين القرآن الكريم بشدة المنافسات السلبية والهدامة التي تنبع من الجشع، والطمع، والكبر، والتعالي، والحسد، والرغبة في الاستزادة الدنيوية. أبرز مثال على هذا النوع من المنافسة مذكور في سورة التكاثر. يقول الله تعالى: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ" (التكاثر: ١-٢) أي "شَغَلَكُم التفاخر والتكاثر بالأموال والأولاد عن طاعة الله، حتى أدرككم الموت فصرتم إلى القبور." هذه الآية تظهر بوضوح أن المنافسة على كثرة المال، والمكانة، والأولاد، والشهرة، ومظاهر الدنيا الأخرى، تحرف الإنسان عن الهدف الأساسي من خلقه والمسار الصحيح للحياة. هذا النوع من المنافسة لا يجلب أي فائدة للفرد، بل يسلبه الهدوء، ويغرق في دوامة القلق والتوتر، ويمنعه من الاهتمام بالمسائل الروحية والأخلاقية الأكثر أهمية. في هذه المنافسة، الانتصار يعني هزيمة الآخر، وهذا الفكر يؤدي إلى ضعف الروابط الاجتماعية، وظهور العداوة، والحسد، وحتى الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين. الحسد، الذي هو نتيجة طبيعية لهذا النوع من المنافسة، منهي عنه بشدة في الإسلام؛ لأن الحاسد يؤذي نفسه ويتمنى زوال النعمة عن الآخرين، وهذا بحد ذاته ظلم وجحود لقضاء الله. لذلك، فإن الحد الفاصل بين المنافسة البناءة والهدامة يكمن في النية، والهدف، والأسلوب. إذا كانت نية المنافسة هي كسب رضوان الله، وخدمة الخلق، والوصول إلى الكمال الإنساني، وكان هدفها السمو الروحي والتقرب إلى الله، وكان أسلوبها عادلاً وأخلاقياً، فإن هذه المنافسة محمودة. أما إذا كانت نيتها المباهاة، والتفاخر، والحسد، والحصول على المزيد للنفس، وكان هدفها المصالح الدنيوية والمادية فقط، وكان أسلوبها غير أخلاقي أو ظالماً، فإن هذه المنافسة مذمومة وخاطئة. يدعو الإسلام الإنسان إلى منافسة نفسه، أي "الجهاد الأكبر"؛ المنافسة للتغلب على الرغبات النفسية والوصول إلى التزكية الذاتية الحقيقية. المنافسة مع الآخرين يجب أن تكون في هذا الاتجاه أيضاً، بحيث يركز كل فرد على تقوية نقاط قوته والسبق في الخيرات، بدلاً من التركيز على نقاط ضعف الآخرين. في الختام، إن شعور المنافسة في جوهره ليس جيداً ولا سيئاً؛ بل هو الإنسان واختياراته التي توجه هذا الشعور. يعلمنا القرآن والتعاليم الإسلامية كيفية توجيه هذه القوة الداخلية نحو الخير والصلاح الفردي والجماعي، بحيث لا تؤدي إلى تدمير العلاقات الإنسانية فحسب، بل تؤدي إلى نمو ورقي أكبر للإنسان والمجتمع. المنافسة الصحيحة، هي منافسة يكون فيها الهدف الظاهري هو التفوق على الآخر، لكن الهدف الباطني هو السعي لتحقيق الأفضلية والتحرك في مسار الكمال الإلهي.
في قديم الزمان، كان هناك أخوان، أحدهما كان مكرساً للتجارة، والآخر منشغلاً بطلب العلم والفضيلة. كان الأخ التاجر يسعى كل يوم ليتفوق على منافسيه ويكسب المزيد من المال، ولكن كلما ازداد ثراءً، زاد حسده وقل هدوؤه. كان قلقاً باستمرار من أن يتجاوزه أحد أو أن تتضاءل ممتلكاته. أما الأخ الآخر، الذي كان يسعى وراء العلم والمعرفة، فقد كان في منافسة داخلية مع نفسه، يسعى كل يوم ليكون أفضل من نفسه في الأمس؛ ليس للتفاخر أمام الآخرين، بل للتقرب إلى الله. في أحد الأيام، رأى سعدي الشيرازي، الحكيم الجليل، الأخوين وابتسم وقال: "يا إخوتي، الرجل الحكيم ليس من يتنافس مع العالم في زيادة الثروة، فإن هذه الصفقة لا تجلب في النهاية إلا الحسرة والاضطراب. بل الرجل السالك هو من يسعى لتجاوز نفسه في خدمة الخلق وطلب رضوان الحق، فإن هذه سعادة دائمة وراحة أبدية." ومنذ ذلك الحين، غير الأخ التاجر طريقه أيضاً وأدرك أن أفضل منافسة هي المنافسة مع الذات في طريق الكمال والخير.