الحسد هو تمني زوال النعمة عن الآخر وهو مذموم، أما الغبطة فهي تمني الحصول على نعمة مماثلة لما عند الآخر دون تمني زوالها عنه، ويمكن أن تكون دافعاً إيجابياً. القرآن يدين الحسد ويدعو بدلاً من ذلك إلى التسابق في الخيرات.
في التعاليم الإسلامية، وتحديداً ما يُستنبط من روح القرآن الكريم، يوجد فرق جوهري بين 'الغبطة' و 'الحسد'. فبينما قد يبدو كلاهما للوهلة الأولى يتعلق بالرغبة فيما يمتلكه الآخرون، إلا أنهما متضادان تماماً في جذورهما، نيتهما، وآثارهما. القرآن الكريم يدين الحسد صراحةً ويحذر منه، بينما الغبطة، إذا كانت بنية سليمة، ليست مذمومة فحسب، بل يمكن أن تكون دافعاً قوياً للنمو الفردي والاجتماعي. لفهم هذا التمييز بعمق أكبر، يجب أن نتناول طبيعة كل منهما ومكانتهما في تعاليم القرآن. الحسد في القرآن الكريم: الحسد هو حالة قلبية يتمنى فيها الشخص زوال نعمة أو فضل أو عطاء من الله عن شخص آخر، أو حتى انتقالها إليه هو. عادة ما تنبع جذور الحسد من ضعف الإيمان، عدم الرضا بالقضاء والقدر الإلهي، الشعور بالنقص، الغرور، أو الحقد والبخل. الشخص الحاسد يتألم لرؤية سعادة الآخرين أو نجاحهم، وقد يلجأ حتى إلى أفعال خبيثة لإزالة تلك النعمة. القرآن الكريم يستنكر الحسد صراحةً، مصنّفاً إياه ضمن الشرور والأمراض النفسية. أبرز إشارة إلى الحسد في القرآن الكريم تأتي في سورة الفلق (الآية 5)، حيث يأمر الله النبي والمؤمنين بالاستعاذة به من شر حاسد إذا حسد. هذه الآية تُظهر خطر وضرَر الحسد، الذي لا يؤذي الحاسد نفسه فحسب، بل يمكن أن يلحق الضرر بالمحسود أيضاً. قصة ابني آدم، قابيل وهابيل، على الرغم من أن كلمة 'الحسد' لم تُذكر صراحةً، إلا أن معظم المفسرين يرون أن سبب قتل قابيل لهابيل يكمن في حسد قابيل على قبول قربان أخيه وتفوقه عليه. الحسد مرض روحي يلوث القلب والروح، ويُبطل حسنات الإنسان نفسه، كما ورد في الأحاديث النبوية أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. يمنع الحسد الإنسان من الشكر ويجعله يركز على ما يملكه الآخرون بدلاً من التركيز على نعمه الخاصة، مما يسلب منه السلام الداخلي. الغبطة في إطار التعاليم القرآنية: 'الغبطة' تشير إلى الرغبة في امتلاك نعمة أو صفة طيبة يتمتع بها شخص آخر، دون تمني زوال تلك النعمة عنه. في جوهرها، الغبطة هي شكل من أشكال الإعجاب الإيجابي والرغبة في الاقتداء. الشخص الذي يشعر بالغبطة يسعد بالبركات الممنوحة للآخرين ويتمنى أن يمنحه الله نفس النعم أو نعمًا مشابهة، أو أن يتمكن هو أيضاً من الوصول إلى هذا المستوى من النجاح أو الفضيلة من خلال الجهد والسعي. على الرغم من أن مصطلح 'الغبطة' نفسه لم يُذكر صراحة في القرآن كمفهوم أخلاقي، إلا أن روحه تتوافق تماماً مع تعاليم القرآن الكريم. يدعو القرآن المؤمنين إلى 'فاستبقوا الخيرات' - أي التسابق في الأعمال الصالحة. هذا التسابق ليس بالضرورة تنافساً سلبياً أو حسوداً، بل هو دافع للاقتداء بصفات الخير لدى الآخرين والسعي للوصول إلى مستويات أعلى في الأعمال الصالحة والفضائل الأخلاقية. على سبيل المثال، إذا غبط شخص إخلاص الآخر، أو علمه، أو سخائه، أو تقواه، فإن هذه الغبطة تشجعه على السير في نفس الطريق وبذل الجهد لاكتساب هذه الصفات النبيلة، دون أن يتمنى أن يفقد الشخص الآخر هذه الصفات. الغبطة هي حافز صحي للنمو والتطور والتحسين الذاتي. إنها دليل على سلامة النفس والرغبة في التقدم، وتساعد الفرد على السعي لتحقيق أهداف إيجابية، وتفيد نفسه والمجتمع من خلال زيادة الجهد في عمل الخير. تدفع الغبطة الشخص إلى النظر إلى النماذج الناجحة والفضيلة واستلهام الإلهام منها، بدلاً من التفكير في أوجه قصوره أو مصائبه. الاختلافات الرئيسية والاستنتاج: يكمن الفرق الأساسي بين الغبطة والحسد في النية الكامنة والرغبة القلبية: * النية: الحسد يحمل نية سلبية، تقوم على تمني زوال النعمة عن الآخر. الغبطة تحمل نية إيجابية، تقوم على تمني اكتساب نعمة مماثلة للنفس، دون تمني زوالها عن الآخر. * التأثير النفسي: الحسد يسبب الألم، الانزعاج، الحقد، والقلق للحاسد، ويحرمه من متع الحياة والشكر. الغبطة تعزز الدافع، الأمل، الجهد، والرضا الداخلي، لأنها تدفع الفرد نحو التحسين والتقدم. * التأثير الاجتماعي: الحسد يمكن أن يؤدي إلى العداوة، الفرقة، والأعمال المدمرة داخل المجتمع. الغبطة يمكن أن تؤدي إلى المنافسة الصحية، التعاون على الخير، والتقدم الجماعي. باختصار، القرآن الكريم، من خلال إدانته للحسد، يؤكد على أهمية نقاء القلب والرضا بالقضاء والقدر الإلهي. ومن ناحية أخرى، من خلال تشجيعه على التسابق في الخيرات، يهيئ المجال للغبطة والطموحات الإيجابية. لذلك، فإن هاتين الحالتين النفسيتين ليستا مختلفتين فحسب، بل هما في قطبين متقابلين تماماً من الناحية الأخلاقية والنفسية. المؤمن الحقيقي يتجنب الحسد ويسعى لتحقيق تطلعاته وتطلعات الآخرين من خلال الغبطة والجهد في سبيل الخير.
يُروى أنه في قديم الزمان، كان هناك جاران يعيشان جنباً إلى جنب. كان لأحدهما بستان خصب ومثمر، بينما كان للآخر أرض جافة لا تُثمر. كلما نظر الرجل صاحب الأرض الجافة إلى بستان جاره، تمنى في قرارة نفسه لو أن الله يرزقه بستاناً مشابهاً، وشجع نفسه على العمل بجد واجتهاد أكبر لعل أرضه تُصبح خصبة يوماً ما. أما جار آخر كان يراقب الاثنين من بعيد، فقد كان يتألم بشدة من ازدهار بستان الرجل الصالح، وكل يوم كان يتمنى في قلبه جفاف ذلك البستان وخرابه. وما أروع ما قاله سعدي الحكيم: 'الحاسد يرمي نفسه في نار الحسرة، وصاحب النية الطيبة ينير قلبه بنور الأمل.' هذه القصة تُظهر كيف أن نيتنا الداخلية يمكن أن تُغير حالنا من الألم إلى الأمل، ومن التدمير إلى البناء.