القرآن الكريم يرى السعادة الحقيقية في سكينة القلب المستمدة من الاعتدال وتجنب الإسراف والقناعة والتركيز على ذكر الله والقيم الروحية. هذه المبادئ تشكل أساس نمط حياة بسيط يؤدي إلى الرضا والسعادة الحقيقية.
في تعاليم القرآن الكريم العميقة والغنية، لا يُذكر مفهوم السعادة الحقيقية وطريق تحقيقها مباشرة بكلمة "العيش البسيط". ومع ذلك، هناك العديد من المبادئ والقيم التي تُبرز بوضوح أسلوب حياة متوازن، بعيدًا عن الإفراط والتفريط، ومرتكزًا على القيم الروحية، مما يؤدي في النهاية إلى السكينة والسعادة الحقيقية. يمكن اعتبار هذه المبادئ ركائز للعيش البسيط من منظور قرآني، وبالتالي يمكن القول إن السعادة الحقيقية، بمعنى راحة القلب والرضا الداخلي، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا النهج في الحياة. يحذر القرآن الكريم الإنسان مرارًا وتكرارًا من الإسراف والتبذير. فقد أكدت آيات عديدة أن الله لا يحب المسرفين. هذا النهي عن الإسراف لا يعني فقط تجنب إهدار المال، بل يشمل أي تجاوز في الاستهلاك، والسعي المفرط وراء الكماليات، والولع المبالغ فيه بالمظاهر الدنيوية. الحياة التي يسعى فيها الإنسان باستمرار إلى المزيد من الكسب والجمع، لا تجلب له السكينة، بل تزيد من همومه وطمعه وقلقه. في سورة الفرقان، الآية 67، يصف الله عباده الحقيقيين بأنهم الذين "وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا" (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما). هذه الآية تشيد بوضوح بالاعتدال وتنهى عن الإفراط والتفريط. هذا الاعتدال يمكن أن يتجلى في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك اللباس والطعام والمسكن والممتلكات، ويعتبر نوعًا من العيش البسيط المنطقي والعقلاني. أحد أهم مفاتيح السعادة في القرآن هو مفهوم "القناعة" و"الرضا". فبينما تُعتبر حب الدنيا والتفاخر بالمال والأولاد أمورًا زائلة وخادعة، يطمئن قلب المؤمن بذكر الله. سورة الرعد، الآية 28، تعبر عن هذه الحقيقة بجمال: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذه الآية تبين أن أصل السكينة والسعادة ليس في تكديس الثروات والكماليات، بل في الارتباط الروحي بخالق الكون. العيش البسيط في هذا السياق يساعد الإنسان على التحرر من قيود الماديات ويخلق مساحة أكبر للنمو الروحي والتوجه إلى الله. عندما يكون لدى الإنسان قلق أقل بشأن الحفاظ على الممتلكات المادية وزيادتها، يجد فرصًا أكبر للتفكر والشكر ومساعدة الآخرين والانخراط في العبادات؛ وكلها تؤدي إلى الإثراء الروحي والسعادة الدائمة. ويؤكد القرآن أيضًا على "الشكر" كوسيلة لزيادة النعم والسكينة الداخلية. تقول سورة إبراهيم، الآية 7: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). هذا الشكر لا يعني فقط قول "الحمد لله"، بل يعني رؤية وتقدير النعم سواء كانت قليلة أو كثيرة، وتجنب الحسرة على ما فات. العيش البسيط يدفع الإنسان إلى التركيز على ما يملك ويمنعه من الحسد والمقارنة بالآخرين، وهو أحد الأسباب الرئيسية لعدم الرضا والتعاسة في المجتمع الحديث. بالإضافة إلى ذلك، ينبه القرآن إلى أن الحياة الدنيا زائلة ومؤقتة، وأن الهدف الأسمى للمؤمن يجب أن يكون الآخرة. في سورة الكهف، الآية 46، ورد: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا" (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا). هذا المنظور يشجع الإنسان على تجنب الولع المفرط بالدنيا ومظاهرها وألا يعلق قلبه بما هو زائل. العيش البسيط بهذا المعنى، هو عدم التعلق، وليس عدم الامتلاك. أي أن الإنسان يمكن أن يمتلك المال، ولكن قلبه لا يكون متعلقًا به، ويدرك أن كل شيء لله وإليه المرجع. هذا التحرر من قيود الماديات يمنح الروح نوعًا من الحرية والخفة، وهو بحد ذاته مصدر عميق للسعادة. لذلك، يمكن استنتاج أنه بالرغم من أن القرآن لا يتناول "العيش البسيط" كمصطلح مباشر، إلا أن مجموعة من التعاليم مثل الاعتدال، وتجنب الإسراف، والقناعة، والشكر، وتقديم الآخرة على الدنيا، توجه الإنسان باستمرار نحو حياة خالية من التعقيدات المادية ومليئة بالسكينة الروحية. هذا النهج في الحياة، والذي يمكن تسميته "العيش البسيط القرآني"، لا يمهد الطريق للسعادة في الدنيا فحسب، بل يضمن السعادة الأخروية أيضًا. السعادة الحقيقية لا تكمن في كمية الممتلكات، بل في نوعية العلاقة مع الخالق وكيفية استخدام نعمه في سبيل رضاه، وهذا يتحقق على أفضل وجه من خلال الالتزام بمبادئ العيش البسيط والاعتدال. فالحياة التي فيها الإنسان مستغنٍ عن الكماليات والزيادات، تمكنه من التركيز على جوانب أهم في الحياة مثل العلاقات الإنسانية، وتطوير الذات، وخدمة المجتمع، والتي تساهم كل منها بدورها في زيادة الشعور بالسعادة والرضا الداخلي. يوفر هذا النمط من الحياة فرصة للإنسان للخروج من الدورة التي لا نهاية لها من الاستهلاك والمنافسة المادية، والوصول إلى هدوء لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الاتصال بمصدر الوجود والالتزام بقوانينه.
يقال كان هناك رجل ثري مشغولًا باستمرار بجمع المزيد من المال وحماية ممتلكاته. كل يوم كانت ثروته تزداد، لكن السكينة والنوم قد فارقا عينيه. ذات ليلة، كان يتقلب مضطربًا في فراشه، متألمًا من أفكار الخسائر المحتملة. في هذه الأثناء، سمع صوتًا جميلًا لدرويش في جواره، الذي كان قد وضع رأسه على وسادته، ليس معه سوى حقيبة وسقاء، وكان يغني بصوت عذب بقلب مبتهج. نظر الرجل الثري من نافذته ورأى الدرويش نائمًا بسلام، خاليًا من الهموم. بحسرة، قال للدرويش: "أيها الدرويش، كيف لك أن تنعم بهذا الهدوء مع كل هذا الفقر، بينما أنا مع كل هذه الثروة، لا أجد لحظة راحة؟" ابتسم الدرويش وأجاب: "يا صديقي، الفرق بيني وبينك هو أنك أسير ممتلكاتك، أما أنا فحر مما لا أملك. سعادتي في القناعة وسعادتك في طلب المزيد؛ ولا تصل أبدًا إلى نهاية." فكر الرجل الثري للحظة وأدرك أن العبء الثقيل للثروة قد أبعده عن الخفة والفرح الحقيقيين. هذه القصة الجميلة من بستان سعدي تذكرنا بأن التخلي عن التعلقات والقناعة بما لدينا، يجلب في بعض الأحيان السلام والسعادة الحقيقية أكثر من أي ثروة.