العلاقة مع الله تتجاوز مجرد العواطف، لتشمل الفهم العقلي، والأعمال العملية، والثبات. إنها مزيج من الحب والمعرفة والأعمال الصالحة والتوكل لتبقى دائمة.
العلاقة مع الله هي القلب النابض للحياة الروحية لكل مؤمن. هذه العلاقة عميقة ومتعددة الأوجه؛ لا يمكن حصرها في بُعد واحد فقط، مثل البُعد العاطفي. على الرغم من أن العواطف تلعب دورًا حيويًا ومهمًا للغاية في التقرب إلى الله، وأن الشوق والحب الإلهي يمكن أن يرتقيا بالفرد إلى قمة العرفان والإخلاص، إلا أن القرآن الكريم والسنة النبوية يوضحان أن هذه العلاقة تتجاوز التقلبات العاطفية البحتة. إنها تشمل أبعادًا أخرى مثل البُعد العقلي، والعملي، والتوكلي، وكل منها يقوي هذا الرابط بذاته ويجعله أكثر ديمومة. الأبعاد العاطفية للعلاقة: لا شك أن الحب والمودة لله هما أساس الإيمان وأعلى مرتبة عاطفية في هذه العلاقة. يقول القرآن الكريم في سورة البقرة، الآية 165: "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" (والذين آمنوا أشد حباً لله). هذا الحب ليس شعوراً عابراً، بل هو عشق عميق ودائم مبني على المعرفة والبصيرة. هذا الحب يدفع الإنسان نحو الطاعة، والإيثار، والتضحية في سبيل الله. الخوف من الله (الخشية والتقوى) هو بُعد آخر من الأبعاد العاطفية التي تم التأكيد عليها مراراً في القرآن. هذا الخوف ليس من نوع الخوف من ظالم، بل هو خوف ممزوج بالاحترام، والعظمة، والهيبة، يمنع الإنسان من ارتكاب الذنوب ويدفعه نحو فعل الخير وتحمل المسؤولية. الرجاء في رحمة الله ومغفرته، والشكر على نعمه التي لا تحصى، هما أيضاً من المشاعر الأساسية في هذه العلاقة. هذه المشاعر تمنح الحياة معنى ولوناً، وتجعل الإنسان صامداً في مواجهة الصعوبات. ولكن هل يمكننا أن نتوقع أن تكون هذه المشاعر دائمًا في أوجها؟ لا، فالإنسان كائن تتقلب عواطفه بمرور الوقت. قد نشعر أحياناً بحماس وشوق لا يوصف، وفي أحيان أخرى قد نصاب بالفتور أو الضعف أو حتى الشك. إذا بُنيت العلاقة مع الله على المشاعر فقط، فقد تتزعزع مع كل تقلب روحي، وهذا يتعارض مع طبيعة "الصراط المستقيم" الذي يشير إليه القرآن. الأبعاد العقلية والمعرفية للعلاقة: يدعو القرآن الكريم الإنسان مراراً وتكراراً إلى التفكر والتدبر والتعقل. العلاقة مع الله ليست مجرد مسألة قلبية، بل هي مسألة عقلية وفكرية أيضاً. فمعرفة الله من خلال التدبر في الآيات الآفاقية (دلائله في الكون) والآيات الأنفسية (دلائله في وجود الإنسان نفسه) تشكل أعمق أساس لهذه العلاقة. يقول تعالى في سورة الروم، الآية 24: "وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). هذا التفكر والتعقل يحوّل الإيمان من تقليد أعمى إلى يقين قلبي وعقلي صامد أمام عواصف الشكوك والشبهات. فهم أسماء الله وصفاته والتفكر في حكمته في الخلق يثري علاقتنا بالله من الناحية المعرفية ويمنحها الثبات. هذا البُعد يساعدنا على الثبات على إيماننا، بالاعتماد على المعرفة والبصيرة، حتى عندما تتراجع مشاعرنا. الأبعاد العملية والسلوكية للعلاقة: الإيمان في الإسلام ليس مجرد اعتقاد قلبي أو شعور؛ بل هو مجموعة من المعتقدات، والأقوال، والأفعال. تتجلى العلاقة مع الله في العمل وأداء الواجبات والعبادات. فالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل كل خير والابتعاد عن المحرمات، كلها تعبير عملي عن هذه العلاقة. يقول الله في سورة العنكبوت، الآية 45: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون). هذه الأعمال العبادية هي أعمدة الاتصال بالله التي تحافظ على هذا الرابط وتقويه حتى في غياب ذروة المشاعر. إنها بمثابة مرساة تحافظ على سفينة الإيمان ثابتة في بحر الحياة الهائج. حتى لو لم نشعر أحياناً بحماس في صلاتنا، فإن مجرد قيامنا بواجبنا واستسلامنا لأمر الله يدل على ثبات وعمق علاقتنا به. الثبات والتوكل: يجب أن تكون العلاقة مع الله علاقة ثابتة وقوية تصمد أمام تقلبات الحياة. الصبر والثبات في سبيل الله من أهم سمات هذه العلاقة. يقول تعالى في سورة البقرة، الآية 153: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين). هذه الآية تبين أن الإيمان لا يقتصر على أوقات الفرح فقط، بل يجب التمسك بحبل الله بالصبر والثبات في الشدائد أيضاً. التوكل على الله، وهو حالة قلبية وعملية من الثقة المطلقة به، يشكل بُعدًا هامًا آخر لهذه العلاقة. التوكل يتجاوز مجرد الشعور، إنه اعتقاد عميق يمكن لأي إنسان من خلاله مواجهة تحديات الحياة وتسليم نفسه لله في جميع مراحلها. الخلاصة: في الختام، يمكن القول إن العلاقة مع الله تشمل طيفًا واسعًا من الأبعاد. على الرغم من أن المشاعر النقية والروحانية، مثل الحب والشوق، هي قوة دافعة قوية للتقرب إلى الله وتمنح الإنسان طعم الإيمان الحلو، إلا أن هذه العلاقة لا ينبغي أن تقتصر على البعد العاطفي فقط. علاقة عميقة وناضجة مع الله تتضمن الفهم العقلي، والالتزام العملي، والتوكل والثبات في جميع الأحوال. هذا المزيج الشامل هو الذي يحول الاتصال بالله إلى رابط لا ينفصم ومثمر يظل راسخًا وثابتًا حتى في اللحظات التي تغيب فيها المشاعر العاطفية المتوهجة. المؤمن الحقيقي هو من يحافظ على اتصاله بالله في كل الظروف، سواء في الفرح أو الحزن، في ذروة الروحانية أو في لحظات الفتور، ويبقى وفياً لعهده وميثاقه معه. هذا الشمول والكمال هو الذي يمنح علاقة الإنسان بخالقه العمق والثراء.
سأل عابد كان كثير الصلاة والذكر ذات يوم جاره الذي كان أقل ظهورًا في العبادة: "ما بالي أراك قليلاً في المسجد، بينما أنا مشغول بعبادة الله وذكره ليل نهار؟" رد الجار بابتسامة: "أنا أيضاً أتحدث مع ربي باستمرار، ولكن ليس بالصراخ والتظاهر. وكأن قلبي معه، سواء كنت في السوق أو في المنزل. فالله لا ينظر إلى كثرة الأعمال، ولا إلى شدة المشاعر العابرة، بل إلى صدق النية وثبات المرء في سبيله." فكر العابد قليلاً وأدرك أن العلاقة مع الله لا تقتصر على المشاعر الجياشة أو الأفعال الظاهرية فحسب، بل إن القيمة الحقيقية تكمن في الثبات والإخلاص الباطني، وهو ما يقويها.