القرآن الكريم لا يأمر بالتخلي المطلق عن متع الدنيا الحلال، بل يوصي بالاعتدال في التمتع بها؛ ولكنه يحذر بشدة من الانغماس في الماديات ونسيان الغاية الأساسية من الخلق.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والشاملة، لا يوجد أي أمر بترك متع الدنيا وجمالها الحلال بشكل مطلق. على العكس من ذلك، يقدم القرآن نظرة متوازنة وواقعية للحياة، فهو لا يدعو إلى الرهبانية والزهد المفرط، ولا إلى الغرق في الماديات ونسيان الآخرة. فالإسلام لا يرى الدنيا مذمومة مطلقًا ولا غاية نهائية، بل يعتبرها جسرًا للوصول إلى الدار الأبدية ومزرعة لغرس الأعمال الصالحة. فالله سبحانه وتعالى هو خالق الجمال والطيبات، وهو يشجع عباده على الاستفادة المشروعة والمعتدلة منها. في سورة الأعراف، الآية 32، يشير الله تعالى صراحة إلى هذا الموضوع، حيث يقول: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ». هذه الآية تبين بوضوح أن استخدام الزينات والأرزاق الطيبة (الحلال) ليس محرمًا على الإطلاق، بل هو مسموح به من قبل الله، بل هو مقدر للمؤمنين في هذه الدنيا. وهذا الأمر الإلهي هو رد صريح على أي فكر متطرف يسعى لتحريم الاستفادة من نعم الله. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد القرآن الكريم بشكل كبير على ضرورة تحقيق التوازن بين الدنيا والآخرة. فالحياة الدنيا هي فرصة لجمع الزاد للآخرة، ولكن هذا لا يعني تجاهل جميع الجوانب المشروعة والإيجابية للحياة الدنيوية. ففي سورة القصص، الآية 77، يقول الله تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». هذه الآية الفريدة تقدم خارطة طريق كاملة للحياة: يجب أن يكون الهدف الأساسي هو الآخرة، ولكن في الوقت نفسه، لا ينبغي إغفال النصيب المشروع من متع الدنيا ونعمها. يشمل «نصيبك من الدنيا» الصحة الجسدية، ومرافق الحياة، والأسرة، وكسب الرزق الحلال، وكل ما يسهل حياة الإنسان ويجعلها ممتعة، ويساعده في طريق العبادة والخدمة. هذه الآية ترسم صورة للمسلم النشط والحيوي الذي يسعى لتحقيق الكمال الروحي ويستفيد من نعم الدنيا ضمن إطار الحلال والاعتدال. ومع ذلك، يقدم القرآن أيضًا تحذيرات جدية بشأن الغرق في لذات الدنيا وتفضيلها على الآخرة. فمتع الدنيا فانية وزائلة، ولا ينبغي أن تكون الهدف الأساسي للإنسان، لئلا تصرفه عن ذكر الله والمسؤوليات الأخلاقية والعبادات. في سورة الحديد، الآية 20، جاء: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ». هذه الآية تبين طبيعة الدنيا الزائلة والخادعة، ولكن هذا لا يعني التحريم المطلق، بل هو تحذير للإنسان حتى لا يغتر بالمظاهر، وأن يعلم أن الدنيا ليست سوى متاع الغرور إذا جعلها غاية آماله. وفي سورة التكاثر، الآية 1 و 2، أشار القرآن إلى نفس المعنى: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ». هذه الآيات تحذر من أن التنافس في جمع المال والجاه والأولاد يلهي الإنسان عن الهدف الأساسي من الحياة وذكر الله، ولا يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان. ولذلك، من المهم أن تكون اللذات ومواهب الدنيا في خدمة الهدف الأكبر، وهو عبادة الله ونيل رضاه، لا أن تصبح هدفًا بحد ذاتها. وباختصار، يوصي الإسلام بالنهج الوسطي. فمن ناحية، لا يشجع على الرهبانية والتقشف الشديد والمفرط، ولا يحرم نعم الله وطيباته. ومن ناحية أخرى، ينهى بشدة عن الغرق في الماديات ونسيان الهدف الأساسي من الخلق. يجب على المسلم أن يستمتع بلذات الدنيا الحلال شكرًا لنعم الله، ولكن يجب عليه دائمًا أن يحرص على ألا تصرفه هذه اللذات عن طريق الحق وذكر الآخرة. فالحياة المتوازنة، والاستفادة الشاكرة والمسؤولة من النعم، وجعل الآخرة هي الهدف الأسمى، هي المبادئ الأساسية في الإسلام عند التعامل مع متع الدنيا. هذه النظرة لا تؤدي فقط إلى حياة روحية غنية، بل تسمح للإنسان بالاستمتاع بجمال الكون بشكل بناء وهادف، وفي النهاية تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.
يُروى في گلستان سعدي أن ملكًا مر مع وزير حكيم على درويش كان يجلس في زاوية مطمئن القلب، يأكل خبزًا يابسًا. فقال الملك لوزيره: «هذا الدرويش أسعد مني، فحاله طيب ولا همَّ لديه من الدنيا.» فرد الوزير: «يا مولاي، هذا الدرويش وإن كان قد انقطع عن الدنيا، إلا أنك أيضًا تستطيع، بالاعتدال وحسن النية، أن تستمتع بلذات الدنيا الحلال، وأن تُشغل قلبك بالآخرة في الوقت ذاته. فالسعادة الحقيقية ليست في ترك كل شيء ولا في جمعه بلا حدود، بل في التوازن والرضا.»