مفهوم 'العدل' في القرآن هو صفة إلهية يقوم عليها الكون، وأمر للإنسان بإقامة الإنصاف في جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، بما في ذلك القضاء والمعاملات والعلاقات، مع تجنب الظلم. إنه يمثل الركيزة الأساسية لمجتمع عادل ومزدهر.
مفهوم 'العدل' في القرآن الكريم هو أحد المفاهيم الأساسية والشاملة، وهو ليس مجرد صفة بارزة من صفات الله تعالى، بل له تطبيقات واسعة النطاق كمبدأ حيوي وأساسي لتنظيم العلاقات الإنسانية الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في اللغة، تعني كلمة 'العدل' وضع كل شيء في مكانه الصحيح، والمساواة، والتوازن، والاعتدال، والإنصاف. وفي الاصطلاح القرآني، تتجاوز هذه الكلمة كونها مجرد مفهوم قانوني لتصبح قيمة أخلاقية وجوهر الرؤية الإسلامية للعالم. يصف الله نفسه بأنه 'العدل'، وتتجلى هذه الصفة في جميع خلقه وشرائعه، بحيث بني الكون كله على أساس العدل والتوازن. أحد أهم تطبيقات العدل في القرآن هو تجليه كصفة إلهية. فالله هو 'العدل' المطلق، ولا يمكن أن يدخل أي شكل من أشكال الظلم أو الجور في ذاته أو أفعاله. لقد خلق الكون بتوازن كامل وحكمة لا مثيل لها. ويتجلى هذا العدل الإلهي بوضوح في سن شرائع الشريعة؛ فجميع الأحكام الإلهية وُضعت لسعادة الإنسان ونموه ولإقامة النظام والقسط في المجتمع. وفي يوم القيامة، وهو يوم الحساب والجزاء، يتحقق العدل الإلهي بشكل كامل وبدون أدنى خطأ، وسيرى كل إنسان نتيجة أعماله بمنتهى الدقة والإنصاف. هذا الإيمان بالعدل الإلهي يبعث الطمأنينة في القلوب ويمنح الأمل للبشرية بأنه لا يضيع حق، ولا ينتصر باطل. تطبيق آخر وحيوي للغاية للعدل هو أمر القرآن الحازم بإقامة العدل والقسط من قبل البشر. يأمر القرآن المؤمنين بشدة بإقامة القسط والعدل. وهذا الأمر ليس مجرد توصية أخلاقية، بل هو تكليف إلهي يشمل جميع جوانب الحياة. على المستوى الفردي، يعني العدل احترام حقوق الذات والآخرين، والاعتدال والتوازن في السلوك، والقول، وحتى المشاعر. يجب على الإنسان أن يحقق توازنًا بين احتياجاته المادية والروحية، والدنيوية والأخروية، وأن يتجنب الإفراط والتفريط. وهذا العدل الداخلي يمهد الطريق للعدل الخارجي والاجتماعي. في البعد الاجتماعي، للعدل تطبيقات واسعة النطاق. يؤكد القرآن بشدة على العدالة في العلاقات الاقتصادية والقضائية والسياسية. ففي المعاملات الاقتصادية، يتم التأكيد على الالتزام الكامل بالإنصاف وعدم الغش أو الإجحاف في الميزان. يقول الله تعالى: "وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ" (سورة الرحمن، الآية 9). وهذا يدل على أهمية العدالة في تعاملات الناس اليومية. أما في البعد القضائي، فالعدل يعني الحكم المحايد والشهادة بالحق، حتى لو كانت ضد الذات أو الوالدين أو الأقارب. يقول القرآن صراحة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (سورة المائدة، الآية 8). تُظهر هذه الآية أن حتى العداوة مع قوم لا ينبغي أن تمنع تنفيذ العدالة، وأن العدل نفسه هو أقرب الطرق إلى التقوى. علاوة على ذلك، يشمل العدل في القرآن حماية الفئات الضعيفة في المجتمع مثل الأيتام والنساء والفقراء. فالأوامر القرآنية المتعلقة بالميراث والزواج والطلاق وكفالة الأيتام كلها مبنية على العدل لضمان عدم ضياع حقوق أي فرد. وفي البعد السياسي، يلتزم الحكام والقادة في المجتمع بالحكم بالعدل والإنصاف، واحترام حقوق جميع المواطنين، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الطبقة الاجتماعية. وقد تم التنديد بالظلم والطغيان في الحكم بشدة، واعتُبرا من الأسباب الرئيسية لزوال الحكومات. ويرتبط العدل أيضًا في القرآن بمفهومي 'القسط' و 'الميزان'. 'القسط' تعني العدالة الكاملة والدقيقة التي تستخدم عندما يتم تقسيم الحقوق بدقة ومساواة. أما 'الميزان' (التوازن) فيشير إلى وسيلة للقياس وخلق التوازن، وله تطبيقات في الأبعاد المادية والروحية والأخلاقية. وكان الهدف من نزول الكتب السماوية وإرسال الأنبياء هو إقامة العدل والقسط بين الناس. يقول الله في سورة الحديد الآية 25: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ". توضح هذه الآية بوضوح أن إقامة العدل هي الهدف الأسمى لرسالات الأنبياء. وفي الختام، يمكن القول إن مفهوم العدل في القرآن هو مفهوم متعدد الأوجه وعميق، ينبع من الصفات الذاتية لله، وينعكس في جميع الشرائع والأوامر والتوقعات الإلهية من البشر. العدل هو العمود الفقري لمجتمع سليم، حيوي، ومرضٍ لله. وبدون العدل، لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق السعادة الحقيقية، ولا يتحقق الكمال الإنساني إلا بتحقيقه. يدعو القرآن مرارًا وتكرارًا الناس إلى التفكر في العدل الإلهي والسعي لإقامته في حياتهم وفي المجتمع، تمهيدًا لتحقيق الحياة الطيبة والخلاص. إن التزام العدل ليس مجرد واجب شرعي، بل هو ضامن للسلام الروحي والاستقرار الاجتماعي.
يُروى أن كسرى أنوشروان العادل، الملك الساساني الصالح، وصل ذات يوم أثناء رحلة صيد إلى مزرعة صغيرة يملكها فلاح. طلب الملك منه ماءً. فأحضر الفلاح بتواضع ماءً باردًا منعشًا في إبريق فخاري. تعجب الملك من طعم الماء اللذيذ وسأل: "هل ماء هذا النبع دائمًا بهذه الحلاوة؟" فأجاب الفلاح: "أيها الملك! حلاوة الماء ليست من النبع، بل من عدل الملك. فمتى ما كان الملك عادلًا، كثرت البركات، وأصبح كل شيء حلوًا ولذيذًا. أما إذا حاد عن العدل، ذهبت البركات من كل شيء، وحتى ماء الينابيع يصبح مرًا." أعجب أنوشروان كثيرًا بهذه الملاحظة الحكيمة، وأدرك أن عدله يؤثر في جميع جوانب حياة شعبه. ومنذ ذلك الحين، تمسك بعدله بقوة أكبر.