الوجدان، المعروف في القرآن بـ "النفس اللوامة"، يلعب دور المرشد الداخلي في اختياراتنا. هذه القوة الإلهية، من خلال لومنا بعد الأخطاء وغرس السلام بعد الأعمال الصالحة، توجهنا نحو الاستقامة والتقوى، وتساعدنا على التمييز بين الخير والشر.
إن دور الوجدان في اختياراتنا هو موضوع متجذر بعمق في تعاليم القرآن الكريم والفكر الإسلامي. الوجدان، في تفسيره القرآني، يُفهم في المقام الأول على أنه "النفس اللوامة" التي أقسم بها الله تعالى في سورة القيامة، الآية الثانية: "وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ". تمثل هذه النفس القوة الداخلية التي تلوم الإنسان بعد ارتكابه خطأً أو ذنباً، مما يدفعه إلى إعادة تقييم أفعاله والسعي نحو التصحيح. الوجدان، في جوهره، هو آلية تحذير إلهية أودعها الله في جوهر الإنسان ليهديه نحو الصواب ويمنعه من الانغماس في الظلمات. هذه القوة الداخلية، بالإضافة إلى "الفطرة" البشرية النقية المذكورة في سورة الروم، الآية 30 ("فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ")، تشكل الأساس الجوهري لتمييز الحق من الباطل. الفطرة هي الميل الطبيعي للإنسان نحو التوحيد والعدل والخير والحقيقة. وبالتالي، فإن الوجدان هو التعبير العملي لهذه الفطرة، حيث يصبح نشطًا في لحظات اتخاذ القرار وبعد أداء الفعل. إنه يوجه الأفراد نحو ما يتوافق مع طبيعتهم الفطرية ويمنعهم مما يتعارض معها. ببساطة، الوجدان هو ذلك الصوت الداخلي الذي يخبر الشخص "هذا صحيح" أو "هذا خطأ"، ثم، في حالة التجاوز، يزرع مشاعر الندم والأسف، دافعًا إياه نحو التوبة والإصلاح. يصور القرآن الكريم الإنسان ككائن وهب الإرادة الحرة، قادر على الاختيار بين الخير والشر. في سورة الإنسان، الآية 3، يقول الله تعالى: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا". في هذا السياق، يلعب الوجدان دور المرشد الأخلاقي الداخلي. هذا المرشد لا يعمل فقط من خلال إلهامه الداخلي، بل أيضًا من خلال توليد مشاعر إيجابية مثل الرضا والسلام بعد القيام بأعمال الخير، ومشاعر سلبية مثل الندم والقلق والأسف بعد ارتكاب الأخطاء، مما يؤثر بالتالي على اختيارات الإنسان. على سبيل المثال، عندما يواجه الفرد إغراءً للقيام بشيء خاطئ، ينشط وجدانه، محذراً إياه من العواقب السلبية لذلك الفعل. إذا استمع المرء لهذا الصوت الداخلي، يمكنه إنقاذ نفسه من الوقوع في الخطيئة. ومع ذلك، إذا تجاهله، فقد يعاني من وخز الضمير الشديد والندم بعد ارتكاب الخطيئة، وهو ما يمكن أن يكون بداية طريق التوبة والعودة إلى الصواب. أحد أهم جوانب دور الوجدان هو ارتباطه بمفهوم "التقوى" (مخافة الله ووعيه). تعني التقوى الورع وضبط النفس عن الذنوب، النابع من الوعي بوجود الله ورقابته الدائمة. الوجدان القوي هو نتيجة وثمرة للتقوى. فكلما تذكر الإنسان الله أكثر، وخاف منه، واعتبره رقيباً على أعماله، كان وجدانه أكثر يقظة ونشاطاً. الشخص الذي يمتلك التقوى يتأمل عواقب كل اختيار في الدنيا والآخرة، ويسعى لاتخاذ قرارات تتوافق مع رضا الله. هذا النوع من الوعي الذاتي والانضباط الذاتي يتأكد بالوجدان. يعمل الوجدان كنظام إنذار ينبه الشخص إلى الأخطاء المحتملة أو التداعيات السلبية لأفعاله، حتى قبل أن تتحقق هذه الأفعال في الواقع الخارجي. لذلك، الوجدان لا يكون نشطاً بعد الفعل فحسب، بل يسبقه ويصاحب عملية اتخاذ القرار أيضاً. علاوة على ذلك، يلعب الوجدان دوراً حيوياً في تهذيب النفس والتنمية الروحية. عندما تلوم "النفس اللوامة" الفرد، فإن هذا اللوم ليس مجرد شعور سلبي؛ بل هو فرصة للنمو والنضج. هذا الصوت الداخلي يدفع الأفراد إلى التفكير، وتحديد أسباب تجاوزاتهم، واتخاذ خطوات لتصحيحها. التوبة والاستغفار، اللذان يؤكد عليهما القرآن مراراً وتكراراً، هما في الأساس استجابات لنداء الوجدان هذا. بدون هذا الشعور الداخلي بالندم، سيكون التصحيح والعودة إلى الصراط المستقيم أمراً صعباً للغاية. هذه العملية المستمرة للتقييم الذاتي والتصحيح تدفع الأفراد نحو الكمال والتقرب أكثر من الله. تتطلب تنمية الوجدان جهداً مستمراً والتزاماً بالتعاليم الدينية. فتلاوة وتدبر آيات القرآن، وذكر الله (الذكر)، وأداء الصلوات والعبادات الأخرى، والتأمل في خلق الله، ومصاحبة الصالحين، كلها عوامل تساهم في إيقاظ وتقوية الوجدان. على سبيل المثال، آيات القرآن التي تتحدث عن عواقب الأعمال الحسنة والسيئة، ويوم الحساب، والمكافآت والعقوبات الإلهية، تؤثر مباشرة على وجدان الإنسان، مما يجعله أكثر حساسية. كما أن دراسة حياة الأنبياء والأئمة المعصومين تقدم نماذج مثالية لأعلى درجات الوعي الأخلاقي، والتي يمكن أن تكون ملهمة للغاية. على النقيض من ذلك، فإن تجاهل نداء الوجدان مراراً وتكراراً يمكن أن يؤدي إلى "موت الوجدان" أو قسوته. عندما يتجاهل الفرد باستمرار تحذيراته الداخلية ويصر على الذنوب، يضعف وجدانه تدريجياً ويفقد حساسيته. هذه الحالة وصفت في القرآن بـ "خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ" (ختم الله على قلوبهم) أو "رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ" (ران على قلوبهم). في هذه الحالة، لم يعد الأفراد يشعرون بالضيق من ارتكاب الذنوب، وتتضاءل قدرتهم على التمييز بين الحق والباطل. هذه الحالة خطيرة للغاية، لأنها تجعل طريق العودة والتوبة صعباً، وتترك الفرد تائهاً في الضلال. لذلك، فإن دور الوجدان في اختياراتنا دور محوري وحيوي. الوجدان، كضوء إرشادي ونظام تحذير داخلي، يقود البشرية عبر ظلمات الجهل والإغراء نحو نور الهداية الإلهية. هذه الموهبة الإلهية تضمن الرفاه الروحي والأخلاقي للإنسان، وتساعد الأفراد على السير في طريق العبودية والقرب من الله. الاستماع إلى هذا الصوت الداخلي وتكريمه لا يؤدي فقط إلى اتخاذ خيارات صحيحة في الحياة الدنيوية، بل يضمن السعادة الأبدية أيضاً. إن تقوية وحفظ حساسية الوجدان واجب دائم على كل فرد يسعى لحياة ذات معنى ومرضية وفقاً لتعاليم القرآن. فالوجدان لا يخبرنا بما لا ينبغي فعله فحسب، بل يشجعنا أيضاً على أداء الأعمال الصالحة والمحمودة من خلال غرس مشاعر الرضا والسلام الداخلي. هذا التوازن بين التحذير والتشجيع يجعل الوجدان أداة قوية للإرشاد الفردي والمجتمعي.
يُحكى أن رجلاً عثر على كنز في خربة. ففرح فرحًا شديدًا، وكاد يطير من الفرح، ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى جافى النوم عينيه، واستولى عليه قلق غريب. كان يتقلب ليلاً ويشعر بالاضطراب نهارًا، لأنه علم أن هذا الكنز ليس من حقه وقد يكون ملكًا لشخص فقده. فذهب أخيرًا إلى شيخ حكيم وقص عليه حاله. ابتسم الشيخ وقال: "يا شاب، هذا الكنز هو ثمرة تعب شخص آخر، وهو يؤرق وجدانك. السكينة الحقيقية تكمن في القلب النقي واليد الكريمة، لا في المال المكدس." عند سماع هذه الكلمات، سلم الرجل الكنز إلى حاكم الوقت لكي يُعثر على صاحبه. فوجد سلامًا يفوق ألف كنز. أدرك أن الجوهر الحقيقي لا يكمن في الأرض، بل في نقاء الباطن، وأن رضى الوجدان أسمى من أي ثروة.