لماذا يبدو بعض الناس أكثر هدوءًا رغم عدم تدينهم؟

الهدوء الحقيقي، من منظور القرآن، ينبع من الإيمان وذكر الله؛ بينما الهدوء الظاهري للأشخاص غير المتدينين غالبًا ما يكون سطحيًا ومؤقتًا ونابعًا من الغفلة أو الانغماس في الدنيا. يؤكد القرآن على الحياة الروحية الصعبة ('معيشة ضنكًا') لمن يعرض عن ذكر الله، بينما ينزل السكينة على قلوب المؤمنين.

إجابة القرآن

لماذا يبدو بعض الناس أكثر هدوءًا رغم عدم تدينهم؟

إن الإجابة على سؤال لماذا يبدو بعض الناس أكثر هدوءًا رغم عدم تدينهم تتطلب فهمًا عميقًا لمفهوم "الهدوء" أو "السكينة" من منظور القرآن الكريم. للوهلة الأولى، قد يبدو أن بعض الأفراد غير المتدينين، أو الذين يبدون ظاهريًا متحررين من القيود الدينية، يتمتعون بقدر أكبر من الهدوء والراحة. قد لا تكون لديهم مخاوف تتعلق بالحلال والحرام، أو الذنوب والمكافآت، أو الآخرة، وبالتالي قد يعيشون حياة تبدو ظاهريًا خالية من الهموم وأكثر يسرًا. لكن هذا الهدوء غالبًا ما يكون سطحيًا ومؤقتًا ويعتمد بشكل كبير على الظروف الخارجية وعدم الانخراط في الحقائق الوجودية وعواقب الأفعال. إنه يختلف جوهريًا عن الهدوء الحقيقي والعميق الذي يتحدث عنه القرآن، والذي له أساس داخلي ودائم. القرآن الكريم يحدد المصدر الوحيد والأصلي للسكينة والطمأنينة القلبية في "ذكر الله" والإيمان به. هذه الحقيقة تشكل حجر الزاوية لفهم الهدوء في الرؤية الإسلامية للعالم. في سورة الرعد، الآية 28، يقول الله تعالى بصراحة وحسم: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب). تشير هذه الآية الأساسية إلى أن الهدوء الحقيقي هو حالة داخلية تنبع من اتصال لا ينفصم بمصدر الوجود الأبدي، وهو الله تعالى. "ذكر الله" لا يعني مجرد تسبيحه أو الثناء عليه؛ بل يشمل التفكر في آياته، ومراقبة الأعمال، والتوكل عليه، والعيش وفقًا لأوامره. هذا الهدوء لا يزول بزوال المال، ولا يتزعزع بالفشل الدنيوي، ولا يتضاءل بسبب صعوبات الحياة ومتاعبها؛ بل هو عمود ثابت يحفظ قلب المؤمن في وجه تقلبات الدهر وأمواجه الهائجة، ويمنحه القوة والثبات. الهدوء الظاهري الذي يلاحظ في بعض الأفراد غير المتدينين قد ينبع من عوامل متعددة لا جذور لها في عمق وجودهم أو اتصالهم بالخالق. وقد تشمل هذه العوامل: 1. الجهل والغفلة عن الحقائق المطلقة: بعض الأفراد، بسبب نقص الوعي أو التجاهل المتعمد لحقائق الوجود، وهدف الخلق، ويوم القيامة، والحساب، وعواقب أعمالهم، قد لا تكون لديهم ظاهريًا مخاوف تتعلق بهذه الأمور. هذه الغفلة تشبه النوم العميق واللذيذ الذي لا ينبه الفرد إلى المخاطر والمسؤوليات الكبيرة القادمة. يشير القرآن إلى هؤلاء الأفراد: "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" (يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون - الروم: 7). لا يمكن اعتبار هذا الجهل بالحقائق السامية والمسؤوليات الوجودية سلامًا حقيقيًا؛ بل هو نوع من اللامبالاة نابع من نقص الفهم العميق. 2. الانغماس في الملذات والاهتمامات الدنيوية: بعض الناس يسعون فقط لإشباع الرغبات والملذات الدنيوية الزائلة، مثل جمع الثروة، واكتساب السلطة، أو الشهرة. عندما تتوفر هذه الملذات وتمتلئ عقولهم بالاهتمامات الدنيوية، قد يشعرون بسعادة مؤقتة وهدوء ظاهري. لكن هذا النوع من الهدوء هش للغاية وسطحي، ومع فقدان هذه الملذات، أو مواجهة المرض، أو ظهور المشاكل والفشل، سرعان ما يفسح المجال للقلق واليأس والفراغ وحتى الاكتئاب الشديد. ذلك لأن مصدر هدوئهم خارجي وزائل. 3. رفض تحمل المسؤوليات الأخلاقية والروحية: تتطلب الحياة الدينية قبول المسؤوليات الأخلاقية، واحترام حقوق الآخرين، وتزكية النفس، والجهاد ضد الأهواء. من يرفض هذه المسؤوليات ويعتبر نفسه متحررًا من القيود الأخلاقية والشرعية، قد يشعر على المدى القصير بالحرية والتحرر من عبء الالتزامات. لكن هذا التحرر ليس حرية حقيقية؛ إنه هروب من الواقع وتجاهل للضمير المستيقظ والفطرة الإلهية التي ستظهر عاجلاً أم آجلاً في شكل وخز الضمير، وعدم الرضا الداخلي، والشعور بالذنب (وإن كان لا شعوريًا). هذا الرفض للمسؤولية يؤدي في النهاية إلى فوضى داخلية وخارجية، ويمنع تشكل الهدوء الحقيقي. 4. الرضا المؤقت بالظروف الحالية وتجنب الأزمات العميقة: يحقق بعض الأفراد غير المتدينين سلامًا مؤقتًا بسبب امتلاكهم للثروة، والسلطة، والصحة المستقرة، أو النجاحات الاجتماعية، وهو سلام مستمد من الرفاهية الدنيوية. هذا الهدوء لا ينبع من عمق الوجود، بل من توافر الوسائل الدنيوية. عندما تزول هذه الوسائل، أو عندما يصاب الإنسان بمرض شديد، أو فقر، أو فقدان الأحباء، أو إخفاقات كبيرة في الحياة، يختفي هذا الهدوء الظاهري أيضًا، ويحل محله اليأس والقلق. فبدون الاعتماد على قوة عليا ومعنى يتجاوز الدنيا، يبقى الإنسان ضعيفًا ووحيدًا في مواجهة الكوارث العظيمة. في المقابل، يتجذر الهدوء القلبي للمؤمن في يقينه بالله تعالى، وعدله اللامتناهي، وحكمته الأزلية، وتدبيره الذي لا تشوبه شائبة في جميع شؤون الكون. يعلم المؤمن أن جميع أحداث العالم بيد الله وأنه يريد الخير والمصلحة الحقيقية لعباده. حتى في خضم الشدائد والبلايا، يطمئن قلب المؤمن بذكر الله، لأنه يعلم أن هذه اختبارات لنموه ورفعته، وأن بعد كل عسر يسرًا، وبعد كل مرارة حلاوة. هذا النوع من الهدوء هو "السكينة" التي أشار إليها القرآن مرارًا وتكرارًا، والتي أنزلها الله على قلوب المؤمنين (مثل سورة الفتح: الآية 4): "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ" (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم). هذه السكينة هي هبة إلهية وقوة باطنية تمنح الإنسان قدرة هائلة على الصمود في وجه أي عاصفة دون أن يرف له جفن أو يتزعزع إيمانه. هذا الهدوء العميق ينبع من الرضا بالقضاء الإلهي، والاستسلام لإرادته، والتوكل المطلق على ذاته الطاهرة. لكن القرآن يوجه تحذيرًا جادًا لأولئك الذين يعرضون عن ذكر الله ويبتعدون عن مصدر الهدوء الحقيقي. في سورة طه، الآية 124، نقرأ: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ" (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى). تعني عبارة "معيشة ضنكًا" حياة صعبة، ضيقة، ومحدودة، ومليئة بالمشقة. هذه الصعوبة ليست بالضرورة فقرًا ماديًا أو مشاكل خارجية، بل يمكن أن تشمل ضيقًا روحيًا، وقلقًا دائمًا، وفراغًا، وعدم رضا داخلي، وشعورًا باللامعنى، وغياب هدف سامٍ في الحياة، حتى لو كان الشخص غنيًا جدًا ماديًا وناجحًا جدًا اجتماعيًا. من لا يدرك هدفًا أسمى لحياته، ولا يقيم صلة عميقة ودائمة بخالقه، يظل غارقًا في دوامة من اللامعنى والاضطراب والحيرة الداخلية. قد يبدو هادئًا من الخارج، لكن داخله يخضع لعواصف ومخاوف لا يمكن التغلب عليها إلا بالاعتماد على قوة روحية ومتعالية. لذلك، فإن الهدوء الذي يُرى في بعض الأفراد غير المتدينين هو غالبًا شكل من أشكال اللامبالاة تجاه الحقائق الوجودية العميقة، أو الانغماس في الملذات الزائلة والاهتمامات الدنيوية. هذا الهدوء هش وغير مستقر وخالٍ من العمق، ويتحطم في مواجهة أدنى الشدائد، أو الأمراض، أو وفاة الأحباء. في المقابل، يتجذر هدوء المؤمن في إيمانه الراسخ، وتوكله اللامتناهي، وصبره على البلايا، ورضاه التام بالقضاء الإلهي. هذا الهدوء هو سكينة عميقة، مستقرة، وحقيقية تحافظ على القلب ثابتًا ومطمئنًا حتى في أصعب الظروف، وتمكنه من العيش بمعنى وهدف. في الواقع، السؤال المطروح هو مغالطة إدراكية؛ لأن الهدوء الحقيقي والأبدي لا يأتي إلا من خلال الإيمان بالله وذكره الدائم. يوضح القرآن بجلاء أن السبيل الوحيد لتحقيق الطمأنينة القلبية والسعادة الحقيقية هو ذكر الله والإيمان به. حياة الإنسان بدون هذا الارتباط الحيوي، تؤدي في النهاية إلى الفراغ والقلق الداخلي، حتى لو لوحظت علامات هدوء ظاهرة في فترة معينة، والتي في الحقيقة ليست هدوءًا بل غفلة عن حقيقة الأمر وعدم مواجهة الأبعاد الأعمق للوجود. يبدأ الهدوء الحقيقي بالإيمان ويتقوى بذكر الرب الدائم والعمل الصالح، وفقط في هذا المسار يمكن للإنسان أن يحقق سكينة لا يمكن لشيء دنيوي تدميرها. هذا الهدوء هو الثمرة الحلوة للاستسلام والرضا والتوكل على الأمر الإلهي، وهي ثمرة لا تنضج إلا في بستان الإيمان وجذورها عميقة في جوهر الإنسان.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

كان هناك ملك ثري وسعيد ظاهريًا، دائمًا ما ينغمس في اللهو والمتع. وفي المدينة نفسها، كان يعيش درويش بسيط، ورغم أنه لم يكن يملك شيئًا من متاع الدنيا، إلا أن وجهه كان هادئًا وعلى شفتيه ابتسامة دائمة. ذات يوم، رأى الملك - الذي كان يتقلب في فراشه ليلاً من القلق والهموم رغم كل جاهه وسلطته - الدرويش وسأله بتعجب: "يا درويش، أراك لا تملك مالاً ولا جاهًا، ومع ذلك أنت دائمًا هادئ ومسرور. كيف لي أنا، مع كل هذا الثراء والقوة، لا أستطيع النوم بسلام ليلاً، بينما أنت تضع رأسك على الفساطير براحة؟" أجاب الدرويش بابتسامة دافئة: "يا ملك، راحتنا وقلقنا من نوع آخر. قلقك ينبع مما تملكه وتخشى فقدانه، وما ترغب فيه ولا تستطيع الحصول عليه. أما هدوئي فيأتي من كوني لا أملك شيئًا يمكن أن يحزنني فقده، وأمنيتي ليست إلا الوصل إلى الحقيقة الأبدية. قلبي يجد راحته في ذكر الخالق، بينما قلبك مثقل بآلاف الهموم المتعلقة بالمخلوقات والممتلكات الدنيوية." ورغم أن الملك لم يفهم تمامًا كلام الدرويش في البداية، إلا أنه بعد سماع هذه الكلمات، غرق في التفكير وأدرك أن الهدوء الظاهري لا يعني بالضرورة الهدوء الحقيقي.

الأسئلة ذات الصلة