يوضح القرآن أن السعادة الظاهرية لبعض العصاة قد تكون نوعًا من 'الاستدراج' نحو العذاب التدريجي أو تنبع من الطبيعة الخادعة للحياة الدنيا، فالسعادة الحقيقية تكمن في طمأنينة القلب ورضا الله، وهما أمران يفتقدهما العصاة، وفي النهاية ينتظرهم حساب نهائي.
إن التساؤل عن سبب سعادة بعض الأفراد الظاهرة رغم ارتكابهم للمعاصي هو سؤال عميق ومثير للتفكير يشغل أذهان الكثيرين. قد يبدو للوهلة الأولى أن العدالة الإلهية موضع شك، ولكن بالتعمق في آيات القرآن الكريم والفهم الأعمق للتعاليم الإسلامية، يمكن العثور على إجابات واضحة لهذه الظاهرة. يقدم القرآن الكريم رؤية شاملة للعالم تتجاوز المظاهر السطحية للحياة الدنيا، مشيرًا إلى الحقيقة المطلقة للوجود ومصير الإنسان. من منظور قرآني، ما يظهر على أنه 'سعادة' أو 'نجاح' في هذه الدنيا ليس دائمًا علامة على الرضا الإلهي أو الفلاح الحقيقي؛ بل يمكن أن يشمل حكمًا واختبارات متنوعة. أحد أهم المفاهيم المستخدمة لتفسير هذه الظاهرة هو 'الاستدراج'. الاستدراج يعني جر الشخص تدريجيًا نحو العذاب، وهو الشخص الذي يصر على عصيانه وفساده. يشير الله تعالى في عدة آيات إلى أنه يمهل العصاة وقد يوسع عليهم النعم الدنيوية، ولكن هذا التوسع في النعم ليس من باب الرضا. بل هو لإقامة الحجة عليهم، وليتمادوا في غفلتهم وعصيانهم، فلا يبقى لهم حجة عند الحساب. هذا الإمهال بحد ذاته اختبار عظيم. قد تخدعهم مظاهر السعادة والنجاح الظاهرية فيعتقدون أن طريقهم صحيح، في حين أن هذا هو الفخ الذي يقودهم إلى الهلاك. سورة الأعراف، الآيات 182 و183، تشير بوضوح إلى هذا المفهوم: "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ". تدل هذه الآية على أن نجاحات بعض العصاة الدنيوية ليست مكافأة إلهية، بل هي مقدمة لعذاب أشد في المستقبل، لأنهم على الرغم من كل الفرص والنعم، انحرفوا عن طريق الحق وانغمسوا في جهلهم وغفلتهم. علاوة على ذلك، يشدد القرآن الكريم بشدة على الطبيعة العابرة والخادعة للحياة الدنيا. فكل ما يحصل عليه البشر في هذه الدنيا، سواء كان مالاً أو سلطة أو مكانة اجتماعية أو حتى متعًا زائلة، هو ضئيل جدًا وعديم القيمة مقارنة بالخلود. السعادة المستمدة من المعصية غالبًا ما تكون سطحية ومؤقتة ولا يمكن أن تجلب السلام الداخلي والسعادة الحقيقية. يصف القرآن الحياة الدنيا بأنها مجرد لعب ولهو وزينة، وأن نهايتها ليست سوى سراب. توضح سورة الحديد، الآية 20، هذه الحقيقة: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". تذكرنا هذه الآية بأن أي سعادة أو نجاح دنيوي مبني على المعصية والغفلة هو مثل نبات ينمو بسرعة وبنفس السرعة يذبل ويختفي. السعادة الحقيقية هي ذلك السلام والرضا اللذان ينشأان من الاتصال بالله والسير على طريق الحق، وليس من الإنجازات المادية الخادعة. إضافة إلى ذلك، مفهوم 'السعادة' في الإسلام أعمق بكثير من مجرد غياب الحزن أو وجود المتع المادية. السعادة الحقيقية في القرآن الكريم تشير إلى طمأنينة القلب، والرضا بالقضاء الإلهي، والقناعة، ورضا الله عن عبده. هذا النوع من السعادة يمكن أن يتواجد حتى في أصعب ظروف الحياة والامتحانات الإلهية. قد يكون العاصي ظاهرًا في رفاهية، لكن قلبه محروم من السلام الحقيقي؛ قد يعاني من قلق داخلي، وخوف من المستقبل، وشعور بالخواء لا يمكن تعويضه بأي ثروة أو قوة. على العكس من ذلك، المؤمن الذي يتقي الله، حتى في الفقر أو المرض، يمكن أن يتمتع بسلام داخلي ورضا، لأن اعتماده على الله ويؤمن بوعود الله. إن الله تعالى عادل مطلق ولا يظلم أحدًا. فتأخير عقاب العصاة لا يعني النسيان أو الظلم، بل هو جزء من الحكمة الإلهية واختبار للعباد. فالدنيا ليست دار عقاب فوري؛ بل العقاب الرئيسي في الآخرة، حيث يرى كل إنسان نتيجة أعماله كاملة غير منقوصة. تقول سورة إبراهيم، الآية 42: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ". تضمن لنا هذه الآية أنه حتى لو بدا الظالمون سعداء في الدنيا، فإن مهلتهم مؤقتة، والحساب النهائي قادم. هذا الإمهال هو أيضًا فرصة للتوبة والعودة، ولكن إذا استغلها أحدهم واستمر في ذنبه، فإن عقابه سيكون أشد. لذلك، فإن السعادة الظاهرية لبعض العصاة ظاهرة معقدة، وهي من منظور القرآن الكريم لها أبعاد مختلفة: يمكن أن تكون نوعًا من 'الاستدراج' يقودهم نحو العقاب النهائي، ويمكن أن تنبع من الطبيعة الخادعة للحياة الدنيا وملذاتها الزائلة التي تبعد القلب عن السلام الحقيقي، ويمكن أن تكون جزءًا من الحكمة الإلهية في اختبار العباد ومنحهم الوقت للتوبة. في النهاية، المهم هو السعادة الحقيقية والأبدية في الآخرة، والتي لا تتحقق إلا من خلال الإيمان والأعمال الصالحة والتقوى، وليس من خلال النجاحات الدنيوية السطحية وغير المستقرة المبنية على المعصية. يعلم المؤمن الحقيقي أن السلام والسعادة الحقيقيين يكمنان في القرب من الله، وأن أي فرح ينبع من المعصية لا أساس له وعابر، وله عاقبة مؤلمة. هذا المنظور يعمق فهمنا للعدالة والحكمة الإلهية ويذكرنا بألا ننخدع بالمظاهر وأن نسعى دائمًا إلى الحقيقة ورضا ربنا.
يروى أنه في أحد الأيام، كان ملك عظيم بكل عظمته ومجده، يجلس في شرفة قصره يتنهد من أعماق قلبه. فسأله وزير حكيم: "يا مولاي، أنت الذي تمتلك كل شيء، لماذا أنت حزين هكذا؟" فأجاب الملك: "لدي ثروة وسلطة هائلتين، ولكن لا أجد لحظة راحة. أنا منشغل باستمرار بالحفاظ عليها والخوف من فقدانها." وفي تلك اللحظة بالذات، مر درويش بسيط القلب بجوار القصر، وعلى شفتيه همهمة من الفرح. رآه الملك من النافذة وقال للوزير: "انظر إلى ذلك الدرويش! لا يملك مالاً ولا سلطة، ومع ذلك قلبه سعيد وشفتاه تبتسمان. إنه أسعد مني." ابتسم الوزير وقال: "يا مولاي، السعادة ليست في المال أو المكانة، فلو كانت كذلك، لكنت أنت الأكثر حزنًا. السعادة الحقيقية تكمن في استغناء القلب عن الدنيا وارتباطه بالحق تعالى. ما أسعد ذلك الدرويش هو سلام روحه، وليس ممتلكاته المادية. فالقلوب المتعلقة بالدنيا لا ترى الراحة أبدًا، حتى لو كانت في ذروة الرخاء."