يرتكب البشر الذنوب بسبب إرادتهم الحرة، وساوس الشيطان، الشهوات النفسية، الغفلة، وحب الدنيا. ومع ذلك، فإن باب التوبة والرحمة من الله مفتوح دائماً.
من منظور القرآن الكريم، يُعدّ ارتكاب البشر للذنوب ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه، تنبع جذورها من طبيعة الإنسان وتركيبته الوجودية، ومن الإغراءات الخارجية، ومن ظروف الحياة. يتناول القرآن هذا الموضوع بحكمة عميقة ويوضح العوامل الرئيسية التي تؤدي إليه. أول هذه العوامل، وربما أهمها، هو وجود الإرادة والاختيار لدى الإنسان. لقد خلق الله تعالى الإنسان مخيراً ومنحه القدرة على الاختيار بين الخير والشر، والهدى والضلال. هذه الإرادة الحرة هي حجر الزاوية في مسؤولية الإنسان وأساس الابتلاء الإلهي. فخلافاً للملائكة الذين هم مطيعون محض، يمتلك الإنسان القدرة على العصيان أيضاً، وهذه القدرة على الاختيار تضاعف قيمة طاعته. وقد ورد هذا بوضوح في آيات مثل سورة الشمس، الآية ٨، التي تقول: "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (فألهمها فجورها وتقواها). هذه الآية تبين أن الإنسان قد خُلق بفطرة إلهية وإمكانيات كامنة لكلا المسارين. العامل الثاني المهم هو وساوس الشيطان. يصف القرآن الشيطان بأنه "عدو مبين" للإنسان. فقد أخذ الشيطان عهداً على نفسه منذ خلق آدم (عليه السلام) بأن يضل بني آدم. ولكن النقطة الأساسية هي أن الشيطان لا يملك أي سلطة إجبارية على الإنسان. إنه مجرد داعٍ ووسواس، يزين السيئات ويقدم الوعود الكاذبة، وبذلك يدفع الإنسان نحو الخطيئة. وكما نقرأ في سورة النساء، الآية ١١٩، على لسان الشيطان نفسه: "وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا" (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا). هذه الآية ترسم بوضوح دور الشيطان الخادع والمغوي، الذي يسوق الإنسان إلى الضلال عبر الأماني الباطلة والتغيير في الفطرة. ولكن المسؤولية النهائية تقع على عاتق الإنسان نفسه، إن كان سيقع فريسة لخداع الشيطان أم سيقاومه. العامل الثالث هو النفس الأمارة بالسوء، أو تلك النفس المتمردة التي تأمر بالشرور. هذا العامل الداخلي يشمل الميول الفطرية للإنسان نحو اللذة، والسلطة، والثروة، والشهرة، والتي إذا لم يتم التحكم فيها، يمكن أن تؤدي إلى الطغيان والذنب. يقول القرآن في سورة يوسف، الآية ٥٣: "إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي" (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي). هذه الآية تعبر عن حقيقة أن النفس البشرية تميل بطبيعتها نحو اللذات والشهوات المادية، وعدم كبح جماحها هو أحد أهم أسباب الذنوب. إن مجاهدة هذه النفس هي ما يُعرف بـ "الجهاد الأكبر"، الذي يحظى بأهمية قصوى في التربية الإسلامية. العامل الرابع هو الغفلة والنسيان. قد يغفل الإنسان، نتيجة لارتباطه بالحياة الدنيا وملاهيها، عن الهدف الرئيسي لخلقه، وعن اليوم الآخر، وعن الوجود الدائم لله، وعن عواقب الذنوب. هذه الغفلة توفر بيئة مناسبة لوساوس الشيطان ومطالب النفس. عندما يغفل الإنسان عن ذكر الله والآخرة، تتلاشى المعايير والقيم الإلهية، ويزداد ميله نحو الذنب. يحذر القرآن مراراً الإنسان من الغفلة ويحثه على تذكر الله باستمرار. هذا التذكر المستمر (الذكر) هو ترياق للغفلة. العامل الخامس هو حب الدنيا أو الدنيوية. في المنظور القرآني، الدنيا هي وسيلة للوصول إلى الآخرة والدار الباقية، وليست الهدف النهائي. ولكن التعلق المفرط بالمال والجاه والشهرة واللذات المادية للدنيا، يمكن أن يحرف الإنسان عن طريق الحق. عندما يرى الإنسان الدنيا كهدف نهائي له، يكون مستعداً لتجاوز الحدود الإلهية وارتكاب الذنوب لتحقيقها. يقول القرآن بوضوح في سورة آل عمران، الآية ١٨٥: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). هذه الآية تبين كيف يمكن لغرور الدنيا أن يسوق الإنسان إلى الذنب، لأنه يصرفه عن الحقيقة الأكبر وهي الآخرة. أخيراً، يمكن القول إن الله خلق الإنسان ضعيفاً ومحتاجاً. هذا الضعف لا يعني العجز، بل يعني قابليته للخطأ. يقول القرآن: "وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا" (ولم نجد له عزما) (سورة طه، الآية ١١٥، في سياق آدم). هذا الضعف الجوهري، إلى جانب العوامل الأخرى، يؤدي إلى زلات الإنسان. ولكن الأهم من الذنب نفسه هو كيفية التعامل معه. يؤكد القرآن الكريم بشدة على التوبة والعودة إلى الله. فالله غفور رحيم للغاية، وهو يفتح باب التوبة دائماً لعباده المذنبين. في سورة الزمر، الآية ٥٣، يقول: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). هذه الآية تبين أن الذنب، وإن كان نتيجة لضعف الإنسان ووساوسه، فإن طريق العودة والمغفرة مفتوح دائماً، وهذا دليل على رحمة الله التي لا حدود لها. لذلك، الإنسان يرتكب الذنوب ولكن الأمل في التوبة والعودة يجب ألا ينقطع أبداً. باختصار، يرتكب البشر الذنوب بسبب امتلاكهم للإرادة الحرة، وتحت تأثير وساوس الشيطان والشهوات النفسية، وأيضاً نتيجة للغفلة والتعلق بالحياة الدنيا. ولكن الهدف من هذه الاختبارات وحتى الذنوب ليس الدمار، بل نمو الإنسان وتطوره من خلال التوبة والعودة إلى طريق الحق. يؤكد القرآن على مسؤولية الإنسان عن خياراته، وفي الوقت نفسه، على سعة رحمة الله ومغفرته.
في قديم الزمان، ذهب طالب شاب إلى أستاذ حكيم، وتفاخر قائلاً بغرور: "يا أستاذ، لقد أصبحت قوياً جداً في العبادة والزهد لدرجة أنني لا أظن أن أي وسوسة يمكن أن تدفعني إلى الخطيئة." ابتسم الأستاذ وقال: "يا بني، لا تستهن أبداً بقوة رغبات النفس ومكر الشيطان. إنهما مثل النهر الهادئ الذي قد يفيض في أي لحظة." مرت الأيام، وفي خلوته، واجه الشاب وسوسة صغيرة للحصول على متاع دنيوي تافه. في البداية، اعتبرها غير مهمة وحاد قليلاً عن الحدود الإلهية. ثم أدى هذا الانحراف الصغير إلى آخر، ثم آخر... حتى وجد نفسه فجأة على طريق انحراف أكبر. عاد إلى الأستاذ بخجل وقال: "يا أستاذ، كنت على حق. خطيئة صغيرة تفتح الباب لخطايا أكبر. كان جذر خطئي في غروري وغفلتي." قبله الأستاذ بلطف وقال: "هذا الاعتراف بالذات هو الخطوة الأولى نحو التوبة واليقظة. إن الله غفور، وكلما عدت إليه، احتضنك بذراعين مفتوحتين. قصتك عبرة تذكرنا بضرورة اليقظة الدائمة وعدم اليأس من الرحمة الإلهية."