لماذا أشعر بالنقص حتى في ذروة النعمة؟

الشعور بالنقص في أوج النعم علامة على الغفلة عن الله والتركيز المفرط على الدنيا. والحل يكمن في الشكر وذكر الله والقناعة القلبية لتحقيق السكينة الحقيقية.

إجابة القرآن

لماذا أشعر بالنقص حتى في ذروة النعمة؟

إن الشعور بالنقص أو عدم الاكتفاء، حتى عندما يكون الإنسان في أوج النعم والرفاه المادي، ظاهرة محيرة ولكنها متجذرة بعمق في الفطرة البشرية، وقد تناولتها تعاليم القرآن الكريم بشكل واسع. فالقرآن الكريم، كتاب الهداية، يكشف بجمال ووضوح الأسباب الكامنة وراء هذا الشعور، ويقدم الحلول العملية للتغلب عليه. هذا الإحساس المتناقض، أي امتلاك كل شيء والشعور بالافتقار، هو مؤشر عميق على أن احتياجات الإنسان تتجاوز مجرد الماديات، وأن الطبقات الأعمق من كيانه تتوق إلى التغذية الروحية والسكينة الحقيقية. إنه يشير إلى أنه بينما قد يتم تلبية الاحتياجات الجسدية والحياة المادية بشكل جيد، فإن الروح، جوهر وجودنا، تظل غير مكتملة، باحثة عن شيء أبدي ولا محدود. إن هذا الشعور يشبه وجود وعاء ثمين وفخم، ولكنه فارغ من الداخل، فلا يمكن لجمال مظهره الخارجي أن يملأ الفراغ الذي يعانيه، مما يؤكد أن السعادة الحقيقية تتجاوز مجرد التراكم المادي. أحد الأسباب الأساسية التي يشير إليها القرآن هو نسيان الخالق والغفلة عن ذكره. فالإنسان بفطرته يميل إلى الكمال المطلق، ولا يمكنه أن يختبر الرضا والسلام الحقيقيين إلا بالاتصال بمصدر النعم والكمالات اللانهائي، وهو الله سبحانه وتعالى. عندما يضعف هذا الاتصال، حتى لو كان العالم كله بين يديه، ينشأ فراغ هائل في داخله. يقول الله تعالى في سورة إبراهيم الآية 7: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ). هذه الآية لا تتحدث فقط عن زيادة النعم المادية، بل تشير أيضاً، وبشكل حاسم، إلى زيادة السكينة الداخلية والرضا الروحي. فالكفر بالنعمة، الذي يُفهم هنا على أنه إهمال شكر النعم ومصدرها الإلهي، لا يؤدي فقط إلى نقص في البركات المادية، بل يسلب أيضاً الطمأنينة الروحية ويؤدي إلى شعور دائم بالنقص. إن الفرد الذي ينظر باستمرار إلى ما يمتلكه الآخرون، أو الذي يسعى باستمرار "للمزيد"، هو في جوهره ناكر للجميل، ويفشل في الاستمتاع الحقيقي بالبركات التي بين يديه بالفعل. هذه الغفلة يمكن أن تتجلى في التعلق المفرط بالحياة الدنيا، ونسيان الغاية الأساسية من الخلق، وعدم الاهتمام بالشكر القلبي والعملي. إن الشعور بالنقص، في جوهره، هو صرخة الفطرة البشرية، تدعو إلى معنى يتجاوز الماديات. إنه ينبع من حقيقة أن الإنسان ليس مجرد كيان مادي؛ بل يمتلك روحاً تحتاج إلى غذاء روحي، وإذا لم تلب هذه الحاجة، حتى لو غمرته أقصى درجات الرفاهية، فلن يتمكن ذلك من ملء الفراغ. يشبه الأمر زهرة في وعاء من التربة الغنية ولكنها محرومة من ضوء الشمس والماء الكافي؛ مهما كانت التربة جيدة، فإنها ستذبل. هذا الجوع الروحي لا يمكن أن يشبعه المال أو السلطة أو الشهرة؛ إنه يتطلب اتصالاً أعمق وأكثر جوهرية بالإله، وتلك هي السعادة الحقيقية التي لا تزول. سبب آخر هو التركيز المفرط على الحياة الدنيا ونسيان الآخرة. فالقرآن الكريم يبين بوضوح أن الحياة الدنيا فانية وخادعة، وأن الهدف الأسمى للمؤمنين يجب أن يكون بلوغ السعادة الأبدية في الآخرة. عندما يكرس الإنسان كل جهده واهتمامه لجمع المال والمتع الزائلة في الدنيا، فإنه حتماً يصل إلى نقطة الفراغ والشعور بالنقص. في سورة الأعلى، الآيتان 16 و17، يقول الله تعالى: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿۱۶﴾ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴿۱۷﴾" (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿۱۶﴾ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴿۱۷﴾). تذكرنا هاتان الآيتان بأن الإنسان ينجذب بطبيعته إلى الدوام والخلود. وعندما يتعلق بأمور الدنيا الفانية والزائلة، فإن هذه الحاجة الداخلية العميقة لا تتحقق، مما يؤدي إلى شعور بعدم الاكتمال والنقص. فالمال والثروة والجاه والسلطة، على الرغم من أنها قد تبدو نعمًا، إذا أصبحت الهدف الوحيد للحياة، فإنها تبني سجونًا عقلية تستعبد الروح وتمنعها من التحليق نحو الكمال. هذا لا يعني أنه لا ينبغي للإنسان أن يستمتع بنعم الدنيا الحلال؛ بل المقصود هو أنه لا ينبغي له أن يجعل الدنيا هي الهدف الأسمى والمطلق لحياته. عندما تقتصر رؤية الإنسان على آفاق الدنيا، فإنه سيجد دائماً أشياء جديدة "ليمتلكها" ولن يصل أبداً إلى الرضا الحقيقي، لأن طبيعة الدنيا لا تشبع، والشهوات النفسية لا نهاية لها. فالشخص الغارق في الماديات يشبه العطشان الذي يشرب الماء المالح؛ كلما شرب أكثر، ازداد عطشاً. هذه الدورة اللانهائية من "الرغبة" هي التي تزرع بذور النقص في قلب الإنسان، مما يؤدي إلى مطاردة مستمرة لشيء دائمًا بعيد المنال. بالإضافة إلى ذلك، تلعب طبيعة الدنيا الاختبارية والفطرة البشرية المتأصلة دوراً مهماً. يصف القرآن الكريم هذه الدنيا بأنها دار اختبار. حتى النعم والممتلكات هي امتحانات إلهية. في سورة التغابن، الآية 15، يقول الله تعالى: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ" (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). تشير هذه الآية إلى أن النعم تُعطى لاختبار مدى شكر الإنسان وثباته على طريق الحق، وليس لتحقيق رضا كامل وغير مشروط. علاوة على ذلك، خُلق الإنسان بطبيعة عجولة وطماعة، إلا من رحم الله. توضح سورة المعارج، الآيات 19-21: "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿۱۹﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿۲۰﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿۲۱﴾" (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿۱۹﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿۲۰﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿۲۱﴾). هذه السمات المتأصلة تجعل الأفراد، حتى في أوج النعم، يقلقون أكثر بشأن فقدان ما لديهم أو يحسدون ما يفتقرون إليه، بدلاً من التعبير عن الشكر والرضا. إنهم يبحثون دائماً عن المزيد ولا يقنعون بما يمتلكون. هذا الجشع والطمع الذي لا يشبع متجذران بعمق في الشعور بالنقص، وإلى أن يتمكن الفرد من التغلب على هذه الصفة بمساعدة إلهية، فلن يحقق أبداً السلام الحقيقي والطمأنينة الداخلية. يمكن أن ينبع الشعور بالنقص أيضاً من مقارنة النفس بالآخرين، أو من وجود توقعات غير واقعية، أو من فقدان الهدف الحقيقي للحياة. فبدون هدف روحي واضح، تصبح كل المكاسب المادية بلا قيمة حقيقية، كملء إناء لا قاع له. الحلول القرآنية للتغلب على هذا الشعور: يقدم القرآن حلولاً عملية وروحية لتخفيف هذا الشعور: 1. الشكر العملي والقلبي: ليس مجرد الشكر باللسان، بل بالاستخدام الصحيح للنعم في سبيل الله ومساعدة الآخرين. الشكر يفتح أبواب النعم ويعزز الشعور بالغنى الداخلي والاكتفاء الذاتي. كلما عبرنا عن الشكر أكثر، كلما شعرنا حقاً أننا "نمتلك"، ويتأصل هذا الشعور الحقيقي بـ"الامتلاك"، وليس "النقص"، في قلوبنا. الشكر هو مفتاح رؤية الخيرات الموجودة والامتنان عليها. 2. ذكر الله: السلام الحقيقي يكمن في ذكر الله. "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28). تملأ هذه الطمأنينة الفراغات الداخلية وتجلب شعوراً بالتحرر من الرغبات الدنيوية. الذكر ليس مجرد تلاوة؛ بل يشمل التأمل في الآيات الإلهية والصلاة والدعاء، وأي عمل يقرب الإنسان من الله. هذا الاتصال الروحي هو الملاذ الآمن من تقلبات الحياة. 3. القناعة والرضا: إدراك أن الدنيا فانية وأن ما عند الله باقٍ وأفضل. القناعة لا تعني التخلي عن الجهود لتحسين الحياة، بل تعني الرضا بما قسمه الله وتجنب الجشع والطمع. يساعد هذا النهج الفرد على الاستمتاع بما يمتلك بدلاً من التوق المستمر لما لا يمتلكه. إنها تتعلق بتقدير الرحلة والبركات على طول الطريق، بدلاً من التركيز فقط على الوجهة أو التراكم المادي. القناعة كنز لا يفنى. 4. الإنفاق ومساعدة المحتاجين: العطاء مما أنعم الله به على الفرد لا يزيد البركات المادية فحسب، بل يجلب سلاماً روحياً عميقاً. يساعد الإنفاق في تحويل تركيز المرء من الأنانية إلى الإيثار، وهو بحد ذاته مصدر فرح ورضا. إن فعل العطاء يطهر الثروة والروح، ويجعل المرء يشعر بالغنى الحقيقي في الروح ويعزز شعوره بالترابط الاجتماعي. 5. التفكر في النعم والآيات الإلهية: التأمل في عظمة الخلق والنعم التي لا تعد ولا تحصى التي تحيط بالإنسان يساعد على تحويل منظوره من "النقص" إلى "الوفرة". يعزز هذا التأمل الشكر ويحرر الفرد من هموم الدنيا. إنه يسمح للمرء برؤية سعة كرم الله والشعور بالدهشة من رحمته، وبالتالي يقلل من الشعور بالنقص الشخصي. هذا التأمل يفتح آفاقاً جديدة من الرضا والسعادة. في الختام، إن الشعور بالنقص في أوج النعم هو عرض لحاجة أعمق لا يمكن إشباعها بالماديات. إنه دعوة إلى الروحانية والشكر والاتصال بالمصدر الأسمى لكل النعم وهو الله تعالى. بالعودة إلى هذه الجذور الروحية وإعادة تنظيم الأولويات، يمكن للمرء أن يحقق حالة من السلام والرضا لا يمكن لأي ثروة مادية شراؤها. عندها فقط يدرك الفرد أن الثروة الحقيقية تكمن في طمأنينة القلب والاتصال بالخالق، وليس في حجم ممتلكاته الدنيوية.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

جاء في بستان سعدي أن ملكاً سأل درويشاً: "هل تشعر بنقص في حياتك؟" أجاب الدرويش بهدوء: "يا أيها الملك! أنا الذي يجب أن أسأل عن النقص أم أنت؟ أنت الذي تسعى دائماً لفتح بلد آخر، ولا تشعر بالراحة، وتظل مستيقظاً في الليل خوفاً من الأعداء، وتتعب في النهار من جشع جمع المال، ألا تشعر أنت بالنقص؟ أما أنا، بقطعة خبز وقليل من الماء، أمتلك قلباً هادئاً وروحاً سعيدة. أنا أرى ما أمتلك، وأنت ترى ما لا تمتلك." تعلمنا هذه القصة الجميلة أن السلام الحقيقي والغنى يكمنان في قناعة القلب والشكر على ما يملكه المرء، لا في سعة الملك والمال.

الأسئلة ذات الصلة