لماذا أشعر أحيانًا أن الله قد تخلى عني؟

شعور التخلي إنساني، لكن القرآن يؤكد أن الله قريب ومراقب دائماً، وأن الشدائد اختبارات للنمو والقرب أكثر.

إجابة القرآن

لماذا أشعر أحيانًا أن الله قد تخلى عني؟

الشعور بالتخلي والوحدة، خاصة عند مواجهة صعوبات الحياة ومتاعبها، هو شعور إنساني طبيعي تمامًا قد يختبره أي شخص. في مثل هذه اللحظات، قد يتبادر إلى الذهن سؤال: "لماذا تخلى الله عني؟" أو "هل أعرض الله عني؟". ولكن من منظور القرآن الكريم، الجواب على هذا السؤال واضح وحاسم: الله لا يتخلى أبدًا عن عباده، وهو دائمًا، في كل حال، أقرب معين ورفيق لهم. هذا الشعور بالتخلي هو نتيجة لتصوراتنا البشرية ومحدودية فهمنا، وليس حقيقة تتعلق بذات الرب. في الحقيقة، أي إحساس بالبعد عن الله، ينبع من غفلتنا ونقص إدراكنا لعظمته ورحمته التي لا نهاية لها. يؤكد القرآن الكريم، في آيات عديدة، على الوجود الدائم واللامتناهي لله في جميع أبعاد الوجود. من أجمل وأكثر التعابير تأثيراً في هذا الصدد، الآية 16 من سورة ق، حيث يقول تعالى: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). توضح هذه الآية بجلاء أن الله ليس بعيداً عنا فحسب، بل هو أقرب إلينا لدرجة أنه لا يمكن تصور أي مسافة، سواء كانت مكانية أو زمانية، بيننا وبينه. هذه القرب ليس قرباً مادياً بالمعنى الحسي، بل هو قرب وجودي، قرب علمي وحضوري وقوة مطلقة. إنه مطلع على جميع أحوالنا، وأفكارنا، واحتياجاتنا، وحتى همساتنا الداخلية. يعلم حاجاتنا ويسمع نداءات دعائنا. لذلك، فإن الشعور بالوحدة والتخلي في حضرة إله قادر كهذا، يحيط بكل شيء وأقرب إلينا من أي شيء آخر، هو مجرد تصور ذهني ينشأ بسبب الضغط النفسي، أو ضعف الإيمان في لحظات معينة، أو الغفلة عن العظمة الإلهية. أحد الأسباب الرئيسية التي قد تجعل الإنسان يشعر بالتخلي هو مواجهة الابتلاءات والمصائب، التي هي جزء لا يتجزأ من الحياة الدنيا. يقول الله تعالى في الآية 2 من سورة العنكبوت: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ" (أيحسب الناس أن يتركوا دون اختبار بمجرد قولهم آمنا؟). هذه الابتلاءات ليست لتعذيب الإنسان أو إيذائه؛ بل هي للنمو والارتقاء، ومعرفة حقيقة الإيمان، وتمييز المؤمن الحقيقي عن غيره. أحياناً، ما نسميه تخلياً أو إهمالاً إلهياً، هو في الحقيقة اختبار إلهي يهدف إلى تقويتنا، وصقل إيماننا، وتكفير ذنوبنا، وتعليمنا دروسًا لم نكن لنكتسبها في الظروف العادية. هذه الصعاب، أحياناً ما تكون درجات للوصول إلى مراتب أعلى من القرب الإلهي، ومن خلالها، يوفر الله فرصاً لعباده لتعويض الأخطاء أو كسب أجور عظيمة. تماماً كما تُصقل المعادن الثمينة بالحرارة لإزالة الشوائب وتصبح أكثر نقاءً، كذلك يتطور المؤمن ويكتمل في بوتقة أحداث الدنيا. نزلت الآية 3 من سورة الضحى، بشكل خاص لتسلية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عندما انقطع عنه الوحي لفترة، وظن البعض أن الله قد تخلى عنه: "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" (ما تركك ربك وما أبغضك). على الرغم من أن هذه الآية تتحدث عن شخص النبي ومقامه أسمى من أن يناله غضب إلهي، إلا أن رسالتها العامة والمُطمئنة هي مصدر عزاء لكل مؤمن يشعر بالوحدة والعجز في رحلة حياته. إن الله الكريم لا يتخلى عن عباده فحسب، بل هو دائماً نصيرهم وداعمهم ومواسي هم. في كل لحظة، في كل نفس، وجودنا وبقاؤنا يعتمد على لطفه وعنايته التي لا تضاهى، ولا تسقط ورقة من شجرة إلا بإذنه. أحياناً، يعود سبب الشعور بالتخلي إلى عدم التوافق بين سرعة دعائنا وطلبنا، وبين سرعة الاستجابة الإلهية. الإنسان كائن عجول بطبعه، ويميل إلى رؤية نتائج دعواته فوراً وبالشكل الذي يريده. ولكن حكمة الله تعالى تتجاوز إدراكنا المحدود. قد يكون صلاحنا في تأخير الاستجابة، أو قد يكون الله قد ادخر لنا شيئاً أفضل وأكثر ديمومة مما نجهله حالياً. في الآية 186 من سورة البقرة نقرأ: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون). توضح هذه الآية أن الله يسمع دعواتنا ويستجيب لها، ولكن كيفية الاستجابة ووقتها وشكلها تخضع لحكمته وعلمه اللامتناهيين، وليس لرغباتنا العابرة وأحياناً الخاطئة. للتغلب على هذا الشعور، يجب الانتباه إلى عدة نقاط أساسية، كلها متأصلة في التعاليم القرآنية: 1. التوكل والثقة الراسخة بالله: الاعتقاد القلبي والعملي بأن الله تعالى يريد الأفضل لنا، وأن كل ما يحدث فيه خير، حتى لو لم يكن مفهوماً في البداية. التوكل الحقيقي يعني تفويض الأمور إليه والطمأنينة الداخلية رغم الصعوبات. 2. الصبر والثبات في مواجهة الشدائد: التحلي بالصبر عند مواجهة المشاكل وعدم العجلة. فالصبر لا يعني فقط تحمل المصائب، بل يشمل أيضاً انتظار الفرج واليسر. يؤكد القرآن مراراً على فضل الصابرين ووعد بأن الله مع الصابرين. 3. التواصل المستمر من خلال الدعاء والصلاة والذكر: هذه العبادات ليست فقط مريحة للقلب، بل هي تذكير دائم بوجود الله في حياتنا. فذكر الله يطمئن القلوب: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). 4. التفكر في نعم الله التي لا تحصى: بدلاً من التركيز على ما ينقصنا، أو عيوبنا، أو مشاكلنا، يجب أن نتفكر في النعم التي لا تعد ولا تحصى التي أنعم الله بها علينا: نعمة الصحة، الأمن، الأسرة، المواهب، والفرص. هذا العمل يساعد على تغيير وجهة نظرنا، وإزالة الجحود، واستبدال مشاعر الحرمان والتخلي بالشكر والامتنان. 5. خدمة الخلق وفعل الخير: الانخراط في الأعمال الصالحة، ومساعدة المحتاجين وإخواننا في الإنسانية، لا يولد طاقة إيجابية داخل الإنسان فحسب ويخرجه من العزلة الفكرية، بل يجسد مبدأ "يد الله مع الجماعة"، ويساعد على زوال الشعور بالوحدة والتخلي، ويحيي نور الأمل والاتصال بالمجتمع والخالق في قلب الفرد. في الختام، كلما شعرت أن الله قد تخلى عنك، تذكر أن هذا وسواس من الشيطان الذي يريد أن يوقعك في اليأس ويصرفك عن طريق العبودية والأمل في رحمة الله. فالله أرحم من أن يتخلى عن عبده. إنه "الرب"، المربي ومدبر شؤون العالم كله. إنه معنا دائماً، حتى عندما نكون غافلين عن أنفسنا وعنه. مسؤوليتنا هي أن نقترب منه أكثر في اللحظات الصعبة، وأن نتمسك بلطفه ورحمته التي لا تنضب، وأن نعلم أن "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ یُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ یُسْرًا" (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً). هذا الوعد الإلهي هو ضمان لانتهاء كل شدة ويسر بعد كل ضيق، شريطة أن يظل إيماننا وتوكلنا وصبرنا راسخاً. الله ليس في مرصد للإيقاع بالإنسان؛ بل هو دائماً إلى جانبه، وبفتح أبواب رحمته، ينتظر عودة عباده إليه، ليحتضنهم بلطفه ويساعدهم على التغلب على صعوباتهم.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أن درويشًا عاش سنوات عديدة في صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا زرع، وعلى الرغم من كل المصاعب، لم ييأس أبدًا من فضل الله. ذات يوم، رآه مسافر وسأله بتعجب: "يا رجل الله، كيف تتغذى وتعيش في هذه الصحراء القاحلة؟ ألا تسأل نفسك لماذا تركك الله هنا؟" فابتسم الدرويش وقال: "يا أخي، أنت تحكم على مظهري وتظن أنني تُركت. لكنني لم أرَ نفسي متخلىً عنها قط. ألا تعلم أن الخالق هو الرزاق؟ أحيانًا يهطل المطر من السماء، وأحيانًا ينبع نبع من تحت الأرض. كيف ينسى عبده هو الذي يرزق طيور السماء ويطعم أسماك البحر؟ هذه الصعاب هي لكي نتوجه إليه أكثر وندرك عظمة قدرته. إن الذي خلقنا ليس بغافل عن حالنا لحظة واحدة." تأثر المسافر بكلمات الدرويش وأدرك أن شعور التخلي هو مجرد نتاج عقل مضطرب، وأن الله دائمًا رقيب ورحيم.

الأسئلة ذات الصلة