قد تنشأ ردود الفعل السلبية تجاه الأعمال الصالحة من الابتلاء الإلهي أو الحسد البشري أو سوء الفهم. لكن المعيار الحقيقي لقيمة العمل هو النية الصادقة ورضا الله، لا آراء الناس.
أيها الأصدقاء الأعزاء، ربما حدث لكثير منا أننا قمنا بعمل صالح بنية خالصة وقلب مليء بالخير، ولكننا فوجئنا بردود فعل سلبية، أو سوء فهم، أو حسد، أو حتى عداء. هذه التجربة يمكن أن تكون محبطة، وتثير في أذهاننا تساؤلات: هل ما فعلناه لم يكن جيدًا حقًا؟ أم ربما كان هناك خطأ في نيتنا؟ لإيجاد إجابات لهذا السؤال العميق، يجب أن نلجأ إلى المصدر اللامحدود للحكمة، وهو القرآن الكريم، ونرى ما هو المنظور الإلهي في هذا الشأن. يعلمنا القرآن الكريم أن المعيار الحقيقي لقيمة العمل ليس ردود الفعل البشرية اللحظية والمتغيرة، بل النية الصادقة ورضا الله تعالى. فعندما يُؤدَّى العمل بإخلاص ولغرض استرضاء الله وحده، فإن جزاءه محفوظ ومؤكد، حتى لو قوبل في الدنيا بالجفاء، أو عدم الشكر، أو بلسان الناس اللاذع. في سورة البينة، الآية 5، يقول الله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ». هذا يعني أنهم "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الطاعة، مائلين عن الشرك إلى التوحيد، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. وذلك هو الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه". توضح هذه الآية بجلاء أن محور جميع العبادات والأعمال الصالحة هو الإخلاص. فإذا كانت نيتنا صافية وهدفنا هو الله فقط، فإن ردود الفعل الخارجية لن تكون ذات أهمية، لأن المكافأة الحقيقية تأتي من العليم بكل النوايا. أحد أهم الأسباب التي يشير إليها القرآن هو مفهوم "الابتلاء" أو الاختبار الإلهي. فالحياة الدنيا هي ميدان اختبار للبشر. يختبر الله عباده المؤمنين بالشدائد، والتحديات، وحتى المواقف السلبية من الآخرين لتقوية إيمانهم وصبرهم. في سورة العنكبوت، الآيتين 2 و 3، نقرأ: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ». أي: "أحسب الناس أن يتركوا دون اختبار بمجرد قولهم: آمنا بالله ورسوله، وأنهم لن يبتلوا بما يظهر به صدقهم؟ ولقد اختبرنا الأمم التي سبقتهم، فليميزنّ الله الصادقين في إيمانهم من الكاذبين فيه". أحيانًا، تكون هذه الردود السلبية لكي تقوينا، وتصقل نيتنا، وتقضي على اعتمادنا على مدح الناس. هذا امتحان إلهي يعلمنا أن الجزاء الأساسي يكمن في رضا الله، وليس في إشادة المخلوق. بالإضافة إلى الاختبار الإلهي، يمكن أن تكون جذور ردود الفعل السلبية كامنة في طبيعة البشر أنفسهم. يشير القرآن إلى جوانب مختلفة من النفس البشرية التي يمكن أن تؤدي إلى ردود فعل غير سارة: **1. الحسد:** من أقوى المشاعر التي يمكن أن ترد الجميل بالقبح هو الحسد. فعندما يرى شخص نجاحًا، أو تفوقًا، أو حتى صفات إيجابية في الآخر، قد يشعر بالحسد بدلًا من الفرح. وهذا الحسد يمكن أن يدفعه إلى التقليل من شأن الفاعل الخير، أو انتقاده، أو حتى الافتراء عليه. في سورة الفلق، الآية 5، نستعيذ بالله من شر حاسد إذا حسد: «وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ». هذه الآية تدل على وجود هذه الصفة الذميمة في بعض الناس وتأثيرها المدمر. **2. الجهل وسوء الفهم:** في بعض الأحيان، يتفاعل الناس سلبًا بسبب عدم كفاية المعرفة، أو سوء فهم النية الحقيقية للفرد، أو فهم خاطئ لأبعاد وعواقب الفعل. ويمكن أن يؤدي الجهل إلى أحكام متسرعة وغير صحيحة. **3. المصالح الشخصية والغرور:** العديد من الأعمال الصالحة، خاصة تلك التي تهدف إلى العدالة الاجتماعية، أو الإصلاح، أو التنوير، قد تهدد مصالح مجموعات أو أفراد معينين. وقد يتصدى الأفراد المتكبرون أو الذين تعرضت مصالحهم للخطر بمواجهة عدائية. فتاريخ الأنبياء الإلهيين مليء بالأمثلة التي واجه فيها الأنبياء، على الرغم من دعوتهم للخير والبر، أشد أنواع المعارضة والاتهامات، لأن رسالتهم كانت تتعارض مع مصالح وعادات جاهلية عصرهم. **4. أمراض القلوب والخبث:** بعض الأفراد يعانون من أمراض قلبية مثل الكبر، أو الحقد، أو النفاق، أو عدم الإيمان. هذه الأمراض تجعلهم يتفاعلون سلبًا حتى مع الخير. كما أن الشيطان يسعى دائمًا من خلال الوسوسة والتحريض إلى التقليل من شأن الأعمال الصالحة أو إثارة الشكوك في قلوب الناس تجاه المحسنين. **الدروس المستفادة من هذه الظاهرة:** * **الثبات على الحق:** ينصحنا القرآن أن نكون ثابتين على طريق الخير والحق، ولا نخشى لوم اللائمين. (سورة المائدة، الآية 54). * **تجنب الرياء:** إذا كان الهدف من القيام بعمل صالح هو كسب إعجاب الناس، فإن ردود الفعل السلبية قد تكون أكثر إيلامًا. فالإخلاص يحمي نيتنا من هذه الآفات. * **التوكل على الله:** الثقة بأن الله هو أفضل حكم ويرى أعمالنا كما هي ويكافئ عليها، يجلب راحة البال. * **الحكمة في العمل:** بالرغم من أن النية خالصة، إلا أن طريقة القيام بالعمل وتقديمه مهمة أيضًا لمنع سوء الفهم قدر الإمكان، دون التنازل عن مبادئ الخير. في الختام، يعلمنا القرآن الكريم أن المعيار الحقيقي لتقييم العمل هو رضا الله والإخلاص في النية. ردود الفعل البشرية السلبية، سواء كانت ناتجة عن الحسد، أو الجهل، أو المصالح الشخصية، يجب ألا تثبط عزيمتنا عن مواصلة طريق الخير. فهذه قد تكون جزءًا من الابتلاء الإلهي الذي يصقل إيماننا ويدفعنا أكثر نحو التوكل على ربنا. المهم هو أن نحافظ على نقاء قلوبنا ونعمل لوجهه الكريم وحده، فالأجر الحقيقي الأبدي لا يكون إلا عنده، وهذا الأجر لا يتأثر أبدًا بآراء البشر المتغيرة.
يُروى أن درويشًا طاهر القلب ومُحسنًا كان يبذل كل ما يملك في سبيل الناس. ذات يوم، كان رجل أعمى جالسًا على طريقه يصرخ طلبًا للمساعدة. أمسك الدرويش الرحيم بيده، وبكل احترام، أوصله إلى مكان آمن ومأوى، ثم تابع طريقه بهدوء. لكن بعد قليل، وبدلًا من الشكر، صرخ الرجل الأعمى بصوت عالٍ أن الدرويش سرق كيس نقودي! اجتمع الناس، واتهموا الدرويش بالسرقة، دون علم بنواياه الطاهرة. لكن الدرويش، بابتسامة هادئة وقلب مليء بالتوكل على الله، قال: "يا قوم، لم يكن لي في هذا العمل قصد إلا رضا الله. إن كان هذا الرجل قد فقد شيئًا، فالله أعلم به. ما أفعله في سبيل الله، لا أطلب جزاءً من الناس." هذه القصة الجميلة من بستان سعدي تعلمنا أن الأعمال الصالحة قد تُقابل أحيانًا بالشك والجحود، ولكن الأجر الحقيقي يكمن عند الرب وحده، لا في مديح أو ذم الخلق.