لماذا يصاب بعض الناس الطيبين بالبلاء رغم صلاحهم؟

البلايا للصالحين غالبًا ما تكون اختبارًا إلهيًا لرفع درجاتهم وتكفير ذنوبهم، وليست مجرد عقاب. هذه الحكمة الإلهية توفر فرصة للنمو والتطهير وزيادة التوكل على الله، مع أجر عظيم في الآخرة.

إجابة القرآن

لماذا يصاب بعض الناس الطيبين بالبلاء رغم صلاحهم؟

سؤال: "لماذا يصاب بعض الناس الطيبين بالبلاء رغم صلاحهم؟" هو من أعمق الأسئلة الأساسية التي شغلت الفكر البشري على مر العصور. هذا السؤال ليس مجرد جانب فلسفي، بل له جذور عميقة في علم اللاهوت وفهمنا للعدل الإلهي وحكمة الله. القرآن الكريم، بنظرته الشاملة والعميقة، تناول هذا الموضوع وألقى الضوء على أبعاده المختلفة. إن فهم هذه الابتلاءات من منظور قرآني لا يجلب لنا الطمأنينة فحسب، بل يغير نظرتنا إلى الحياة والمعاناة. النقطة الأولى والأهم التي يطرحها القرآن بشأن البلايا والمحن هي مفهوم "الابتلاء" أو الاختبار الإلهي. لقد ذكر الله تعالى مرارًا في القرآن أن الحياة الدنيا هي دار اختبار وامتحان. هذا العالم هو محطة عبور، ونحن فيه نُعرض لاختبارات مختلفة لتمحيص إيماننا، وكشف نقاط ضعفنا، وإظهار قدراتنا على النمو والارتقاء. في سورة العنكبوت الآية 2 يقول: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ" (أيحسب الناس أن يتركوا دون اختبار لمجرد قولهم "آمنا"؟). هذه الآية توضح بجلاء أن الإيمان ليس مجرد قول باللسان، بل يجب أن يصقل في بوتقة الأحداث والمصاعب. البلايا هي أدوات لتنقية المؤمنين ورفع درجاتهم. البلاء بالنسبة للصالحين يمكن أن يتخذ عدة أشكال: 1. الامتحان ورفع الدرجات: بالنسبة للعباد الصالحين والمؤمنين، غالبًا ما تكون البلايا ليست للعقاب، بل لرفع الدرجات ونيل الأجور العظيمة في الآخرة. يريد الله أن يختبر صبرهم وشكرهم وتوكلهم ورضاهم بقضاء الله وقدره. لقد تحمل الأنبياء، الذين كانوا أكمل البشر، أشد الصعاب. تعرض النبي أيوب (عليه السلام)، على الرغم من صلاحه وصبره المثالي، لأشد الأمراض وفقدان الأموال والأبناء، ولكن في النهاية، أدى صبره إلى أقصى درجات المعرفة والقرب من الله، وحصل على أجر عظيم. هذا يدل على أن البلاء للمؤمنين الحقيقيين هو طريق الكمال وليس مجرد عقوبة. سورة البقرة الآية 155 تقول: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين). هذه الآية تصرح بأن الابتلاءات جزء لا يتجزأ من الحياة، وأن الأجر للصابرين. 2. تكفير الذنوب: حتى الإنسان الصالح قد يكون لديه ذنوب صغيرة أو تقصيرات يغفل عنها. البلايا والمحن يمكن أن تكون وسيلة لتطهيره من هذه الذنوب وكفارة لها. جاء في الحديث النبوي الشريف: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" (ما يصيب المسلم من تعب ولا مرض ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه). هذا يدل على أن الله، من خلال البلايا، حتى للصالحين، يوفر فرصة للتطهير والإعداد لحياة أفضل في الآخرة. 3. التذكير والعودة إلى الله: أحيانًا يغرق الإنسان، وإن كان صالحًا، في رغد العيش والرخاء وينسى الله. يمكن أن تكون البلايا بمثابة جرس إنذار ليعود الإنسان إلى ربه، ويتضرع إليه، ويدرك عمق عبوديته. هذه العودة والتوبة، وإن كانت من شخص صالح، ترفع من مقامه. 4. إظهار الحكمة والقدرة الإلهية: قد تحدث بعض البلايا لأسباب تفوق الإدراك البشري المحدود. فالله هو الحكيم المطلق، وجميع أفعاله مبنية على حكم خفية قد لا نكون قادرين على فهمها بشكل كامل. أحيانًا يكون البلاء، بالنسبة للشخص الصالح، ليس مجرد اختبار له، بل يمكن أن يكون عبرة للآخرين، أو يؤدي إلى خير أعظم في المستقبل يكون غير مرئي في البداية. في سورة الكهف، قصة موسى والخضر (عليهما السلام) مثال واضح على هذه الحكم الخفية؛ فالخضر يقوم بأفعال تبدو شريرة أو غير منطقية ظاهريًا (خرق السفينة، قتل الغلام)، ولكن في النهاية يتبين أن لكل منها حكمة عظيمة. 5. اختلاف معيار "الصلاح": نقطة مهمة أخرى هي أن معيار "الصلاح" في المنظور الإلهي قد يختلف عن المنظور البشري. قد يبدو الإنسان صالحًا جدًا في الظاهر، ولكن في داخله قد تكون لديه عيوب أو كبرياء خفي لا يظهر ولا يزول إلا من خلال البلاء والتواضع. كذلك، أحيانًا تقتصر الأعمال الصالحة على الظاهر فقط، ولا يكتمل فيها روح العبودية والتوكل الكامل على الله. يمكن للبلاء أن يكمل هذه الجوانب. في الختام، يعلمنا القرآن الكريم أن الدنيا هي دار اختبار وليست دار جزاء نهائي. فالثواب الكامل والمحاسبة الدقيقة للأعمال ستكون في الآخرة. والذين يصابون بالبلاء في الدنيا رغم صلاحهم، إذا صبروا وتوكلوا على الله، فسيكون لهم أجر عظيم لا يُحصى. الله لا يظلم أحدًا أبدًا، وعدله مطلق. سورة آل عمران الآية 185 تقول: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). هذه الآية توضح بجلاء أن الحساب النهائي والأجر الكامل سيكون يوم القيامة، وأن الحياة الدنيا بجميع صعوباتها ومسراتها ليست سوى ممر. لذلك، البلايا للصالحين هي فرصة للنمو، والتطهير، والارتقاء إلى مراتب أعلى عند الله تعالى، وليست أبدًا علامة على الظلم، بل هي عين الحكمة والرحمة الإلهية. هذه النظرة تساعد الإنسان على عدم اليأس أمام الصعاب ومواصلة طريقه في العبودية بالتوكل والصبر، مترقبًا الثواب الأبدي.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أنه في قديم الزمان، في مدينة فاضلة، كان يعيش تاجر ثري يسعى دائمًا لزيادة ثروته. كان يذهب إلى السوق مبكرًا كل صباح ويبقى منهمكًا في عمله حتى وقت متأخر من الليل. بجواره، كان يعيش درويش زاهد وصالح، قنوعًا بالقليل جدًا، ومواظبًا على ذكر الله تعالى. ذات يوم، رأى التاجر الدرويش بوجه بشوش وقلب مطمئن، منشغلًا بعبادته. فتبسم التاجر في نفسه بسخرية قائلًا: "هذا الرجل المسكين يقضي عمره في الفقر والعدم، بينما أنا، بكل جهدي واجتهادي، غارق في النعم والثروة." فجأة، فقد حصان هائج سيطرته على عربته، وانطلق مسرعًا نحو دكان التاجر، فحطم جميع بضاعته الثمينة، وأصيب التاجر نفسه إصابة بالغة. الدرويش، الذي شهد هذا المشهد، هرع فورًا لمساعدة التاجر، فواساة بلطف واعتنى بجروحه. نظر التاجر، وهو يرقد متألمًا وسط بضاعته المدمرة، إلى الدرويش بوجه يملؤه الألم وقال: "يا صاحبي، ظننت أن ثروتي مصدر راحتي وفقرك معاناة، ولكنني الآن أرى أن فقرك هذا هو الذي حمَاك من هذه البلية، وأن عبوديتك هذه هي التي منحتك السلام، بينما ثروتي لم تجلب لي سوى الهم والحزن." رد الدرويش بابتسامة دافئة: "البلاء والرخاء، كلاهما من حكم الله. أحيانًا ما يبدو سعادة ظاهرة، يكون باطنًا سببًا للكبر والغفلة، وأحيانًا ما يبدو بلاءً، يكون وسيلة للتطهير والارتقاء الروحي. الكنز الحقيقي يكمن في الصبر والشكر على قضاء الله وقدره، فحكمة الرب أسمى بكثير من إدراكنا، وفي كل حادثة خير خفي قد لا يظهر للعيان في البداية."

الأسئلة ذات الصلة