الشكوى المستمرة تنبع من طبع الإنسان المتعجل، وكفران النعم، وسوء فهم الابتلاءات الإلهية. ويقدم القرآن علاجات مثل الصبر والشكر والتوكل على الله للتغلب على هذه الحالة.
إن ظاهرة الشكوى المستمرة هي سلوك بشري متجذر بعمق، وموضوع متكرر يتجاوز الثقافات والعصور. من منظور إسلامي، وتحديداً من خلال عدسة القرآن الكريم، فإن هذا التذمر المتواصل ليس مجرد عادة سطحية، بل ينبع من اختلالات روحية ونفسية عميقة. يقدم القرآن، كدليل شامل للبشرية، تفسيرات ثاقبة لأصول هذا الاستياء ويوفر حلولاً خالدة لغرس روح الشكر والقناعة. إن فهم هذه الرؤى القرآنية يتيح لنا أن نرى الشكوى ليس فقط كعيب في الشخصية، بل كعرض من أعراض انقطاع أعمق عن الحكمة الإلهية الكامنة في الخلق. أحد الأسباب الرئيسية للشكوى المستمرة، كما يتضح في القرآن، يكمن في طبيعة خلق الإنسان ذاتها. في سورة المعارج (الفصل 70، الآيات 19-21)، يصف الله تعالى البشرية قائلاً: "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا". هذا الوصف العميق يسلط الضوء على الميل البشري المتأصل نحو "الهلع" – وهي حالة من العجلة والقلق وعدم الصبر. عندما يواجه الإنسان الشدائد أو الابتلاء، يتجلى هذا النقص المتأصل في الصبر على شكل ضيق فوري ويأس، وفي النهاية، شكوى وتذمر. فبدلاً من البحث عن العزاء في الصبر أو اللجوء إلى الله، يتفاعل الفرد "الهلوع" بسرعة بالاستياء. وعلى النقيض من ذلك، عندما تحل به النعم أو الخيرات، يميل نفس الفرد إلى أن يصبح "منوعاً" – أي بخيلاً وجاحداً، وغير راغب في المشاركة أو الاعتراف بمصدر هذه النعم. هذا الطابع المزدوج المتمثل في الجزع عند الشدائد والبخل عند الرخاء، يخلق أرضاً خصبة للشكوى المستمرة. غالباً ما يفشل هؤلاء الأفراد في إدراك الطبيعة العابرة للظروف الجيدة والسيئة على حد سواء، مما يؤدي بهم إلى الشعور الدائم بعدم الرضا عن حالتهم الحالية، بغض النظر عن عدد النعم التي قد يمتلكونها. يظل تركيزهم مثبتاً على ما ينقصهم، بدلاً من تقدير ما لديهم، وهو ما يصبح مصدراً دائماً للضيق والشكوى. يتطلب هذا الاستعداد المتأصل جهداً واهتماماً روحياً واعياً للتغلب عليه، وتوجيه النفس نحو الصبر والشكر. عامل آخر مهم يسهم في الشكوى المزمنة هو "كفران النعمة"، أو عدم الشكر على النعم الإلهية. كثير من الناس، على الرغم من أنهم محاطون بنعم لا تُحصى من الله – الصحة، الرزق، المأوى، العائلة، والسلام – يميلون إلى تجاهلها وبدلاً من ذلك يركزون على أوجه القصور المتصورة أو المصائب. يحذر القرآن صراحة من هذا الغفلة. في سورة إبراهيم (الفصل 14، الآية 7)، يعلن الله تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ". تؤسس هذه الآية مبدأً أساسياً: الشكر يزيد النعم، بينما الجحود يؤدي إلى زوالها أو نقصانها. أولئك الذين يشكون بلا انقطاع غالباً ما يمارسون شكلاً خفياً من كفران النعمة. فهم لا يحصون نعمهم وبدلاً من ذلك يضخمون شكواهم. هذا التركيز السلبي لا يستنزف سلامهم الداخلي فحسب، بل يمنعهم أيضاً من رؤية كرم خالقهم اللامحدود. إنه عمى روحي يبقيهم محبوسين في حلقة مفرغة من عدم الرضا والاحتجاج، حيث حتى في خضم الوفرة، يجدون شيئاً ينعون عليه، لأن قلوبهم خالية من نور الشكر. إن الميل البشري إلى نسيان النعم الماضية بسرعة عند حدوث شدة جديدة، كما هو مذكور في آيات مثل سورة يونس (10:12)، يغذي هذه الدورة من الجحود والشكوى. السبب الثالث والأكثر أهمية هو "سوء فهم الابتلاءات الإلهية" والاختبارات. يذكر القرآن بشكل لا لبس فيه أن الحياة الدنيا هي ميدان اختبار مصمم لصقل شخصية الإنسان وتحديد إيمانه الحقيقي. يتعرض الناس لاختبارات مختلفة – الخوف، الجوع، نقص في الأموال والأنفس والثمرات (سورة البقرة 2:155). ومع ذلك، يفشل العديد من الأفراد في استيعاب الحكمة الأعمق وراء هذه الابتلاءات. في سورة الفجر (الفصل 89، الآيات 15-16)، يُذكر: "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ". هذه الآيات تصور تماماً الميل البشري لتفسير اليسر على أنه فضل إلهي والعسر على أنه إذلال إلهي. يؤدي هذا الفهم السطحي إلى الشكوى، حيث يرى الأفراد الصعوبات كعقوبات غير عادلة أو مصائب بدلاً من فرص للنمو الروحي، وتكفير الذنوب، أو رفع الدرجات. بدون المنظور الصحيح، يصبح كل تحد مصدراً للمرارة والتذمر، مما يمنع الفرد من تطوير المرونة والصبر والاعتماد الأعمق على الله. أما المؤمنون الحقيقيون، فإنهم يحتضنون الابتلاءات كوسيلة للتقرب إلى خالقهم، مدركين أن كل محنة، مهما كانت صعبة، تحمل حكمة خفية وطريقاً لمكافأة أعظم. علاوة على ذلك، فإن "التعلق المفرط بمتع الدنيا الزائلة" هو مساهم كبير في الشكوى المستمرة. عندما تكون غاية الإنسان النهائية ورضاه مرتبطين فقط بالممتلكات المادية والراحة والإنجازات الدنيوية، فإن أي انزعاج طفيف أو خسارة أو رغبة لم تتحقق يمكن أن تؤدي إلى استياء شديد وتذمر. يحذر القرآن مراراً وتكراراً من الانغماس المفرط في مغريات هذه الدنيا الزائلة على حساب المكافآت الأبدية في الآخرة. عندما تكون سعادة المرء مشروطة بالظروف الخارجية – صحة مثالية، ثروة وفيرة، علاقات مثالية – يصبح عرضة لخيبة الأمل المستمرة لأن الحياة الدنيوية بطبيعتها ناقصة وغير متوقعة. إن الطبيعة التي لا تشبع للرغبات الدنيوية تعني أنه حتى عندما يصل المرء إلى مستوى معين من الراحة، تظهر رغبات جديدة، مما يؤدي إلى سعي لا نهاية له نادراً ما يتوج بالرضا الحقيقي. وهذا السعي، مدفوعاً بالخوف من الفوات أو الرغبة في المزيد، يؤدي حتماً إلى شكاوى مزمنة عندما لا تتحقق الطموحات بالكامل أو عندما تنشأ مضايقات بسيطة. أخيراً، فإن "الافتقار الأساسي للتوكل على الله" والتسليم لـ"القدر والقضاء الإلهي" غالباً ما يكمن وراء الشكوى المستمرة. إذا كان الفرد يؤمن حقاً بأن كل شيء يحدث بإرادة الله وحكمته، وأنه سبحانه وتعالى الحكيم المطلق، العليم المطلق، والرحيم المطلق، فإن الرغبة في الشكوى تتضاءل بشكل كبير. تشير الشكوى غالباً إلى التشكيك في الحكمة الإلهية أو عدم القدرة على الاستسلام لما هو خارج عن سيطرة الإنسان. إنها تنبع من الرغبة في التحكم في النتائج التي هي في نهاية المطاف في يد الله. يغرس التوكل الحقيقي السلام الداخلي والقبول، مما يسمح للشخص بالتنقل في تقلبات الحياة بتوازن. عندما يثق المرء تماماً في خطة الله، حتى عندما يكون فهمها صعباً، يرفع عنه عبء القلق وعدم الرضا، ويحل محله استسلام هادئ للإرادة الإلهية وأمل في المكافأة النهائية. **العلاجات القرآنية للشكوى:** القرآن لا يشخص المشكلة فحسب، بل يقدم أيضاً حلولاً قوية: 1. **الصبر:** تم التأكيد عليه مراراً وتكراراً كحجر الزاوية في الإيمان. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة 2:153). يتضمن الصبر المثابرة وضبط النفس والثبات في مواجهة الشدائد، مما يمنع رد الفعل الفوري بالشكوى. 2. **الشكر:** غرس عقلية الشكر على كل نعمة، كبيرة كانت أم صغيرة. هذا يحول التركيز مما هو ناقص إلى ما هو موجود، مما يعزز القناعة. 3. **ذكر الله:** ذكر الله المستمر يجلب السلام للقلب. "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد 13:28). القلب الممتلئ بالذكر لا يجد مساحة كبيرة للتذمر. 4. **التوكل على الله:** تفويض جميع الأمور إلى الله وقبول قضائه. هذا يحرر المرء من قلق السيطرة وإحباط الرغبات غير المحققة. 5. **التفكر:** التأمل في آيات الله في الخلق وفي النفس، وفهم الغرض من الحياة والابتلاءات، مما يؤدي إلى بصيرة روحية أعمق وتقليل الشكوى. في الختام، إن الشكوى المستمرة، كما يحللها القرآن، هي قضية معقدة متجذرة في طبيعة الإنسان المتعجلة، والجحود، وسوء فهم الاختبارات الإلهية، والتعلق المفرط بالحياة الدنيا، والافتقار إلى الاعتماد الكامل على الله. يقدم القرآن إرشادات عميقة لتحويل هذه الصفة السلبية إلى روح من الصبر والشكر والتسليم، مما يؤدي إلى سلام داخلي حقيقي ورضا، بغض النظر عن الظروف الخارجية. من خلال استيعاب هذه المبادئ الخالدة، يمكن للأفراد التحرر من دائرة الشكوى واعتناق حياة مليئة بالرضا الروحي.
في يوم من الأيام، كان ملك يتجول في حديقته الغناء، بين الأشجار الخضراء والينابيع الجارية. كان يتأمل في سبب وجود شعور دائم بعدم الرضا في قلبه وقلوب حاشيته، على الرغم من كل ثروته وسلطته. في تلك الأثناء، وقع بصره على درويش جالس في زاوية من الحديقة. كان الدرويش يرتدي ثياباً بسيطة وبدا فقيراً، لكن ابتسامة سلام ورضا كانت تعلو وجهه. اقترب الملك منه بدهشة وسأل: "يا رجل الله، كيف لك، مع قلة ما تملك، أن تكون سعيداً ومبتهجاً وراضياً هكذا، بينما نحن الملوك، على الرغم من كل نعمنا، نشكو ونتذمر باستمرار؟" رد الدرويش بوجه بشوش: "أيها الملك، السر الداخلي يكمن في هذا: لقد عقدت عهداً مع نفسي؛ لا أشكو أبداً مما ينقصني، بل أشكر على ما لدي. أعلم أن كل نفس، وكل لقمة، وكل لحظة سلام، هي هدية من الله. والشكوى هي كفران لنعمة المنعم. أولئك الذين يركزون فقط على ما لا يملكونه، حتى لو امتلكوا العالم كله، لن يجدوا الرضا أبداً. أما أولئك الذين يشكرون على ما لديهم، مهما كان قليلاً، فسوف يدركون الوفرة والرخاء في كل لحظة." ذهل الملك من بساطة وعمق كلمات الدرويش، وأدرك أن الغنى الحقيقي يكمن في القناعة والشكر، وليس في كثرة الممتلكات أو الشكوى التي لا نهاية لها.