لماذا يبتعد البعض عن الله رغم نقاء قلوبهم؟

قد يبتعد القلب النقي عن الله بسبب الغفلة عن ذكره، والتعلق المفرط بالدنيا، ووساوس الشيطان. هذه المسافة ليست ناتجة عن سوء نية، بل تتطلب يقظة وعودة واعية إلى الله.

إجابة القرآن

لماذا يبتعد البعض عن الله رغم نقاء قلوبهم؟

سؤالكم عميق ومهم للغاية، ويشير إلى أحد الجوانب الدقيقة والمعقدة في روح الإنسان وعلاقته بخالق الكون. للوهلة الأولى، قد يبدو أن القلب النقي يجب أن ينجذب تلقائيًا نحو ربه ولا يبتعد عنه أبدًا. ولكن حقائق الحياة وتعاليم القرآن الكريم تُظهر أن هناك عوامل متعددة يمكن أن تخلق هذه المسافة، حتى لو لم يكن للقلب في الأصل نية سوى الخير والنقاء. هذه المسافة غالبًا لا تنبع من سوء النية، بل هي نتاج الغفلة، أو الأولويات الخاطئة، أو التأثيرات الخفية للبيئة والنفس. أحد الأسباب الرئيسية لهذا الابتعاد هو "الغفلة". الغفلة تعني النسيان، وعدم الانتباه، والجهل بأمر مهم. لقد حذر القرآن الكريم الإنسان مرارًا وتكرارًا من الوقوع في الغفلة. قد يكون القلب النقي مصدرًا للإيمان وحب الخير، ولكن إذا لم يُعنَ هذا القلب بالرعاية والتذكير الدائم، فسوف تتراكم عليه غشاوة الغفلة شيئًا فشيئًا، تمامًا كالمرآة التي يتراكم عليها الغبار. يمكن أن تنشأ الغفلة من الانشغال المفرط بأمور الدنيا، أو بالملذات العابرة، أو حتى بروتينيات الحياة اليومية التي تلهي الإنسان عن التأمل في آيات الله وذكره. إن صاحب القلب النقي قد لا يرتكب الكبائر، ولكن بسبب الغفلة، قد يهمل العبادات الصغيرة، والذكر، والدعاء، والتفكر في خلق الله. هذه الغفلة التدريجية تشبه ابتعاد قطرة ماء عن المحيط؛ يبدو الأمر غير ذي شأن في البداية، لكن المسار يتغير تدريجيًا حتى تتسع المسافة. يقول القرآن: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف: 179). هذه الآية توضح بجلاء أن الغافلين هم أولئك الذين، رغم امتلاكهم لأدوات الإدراك (القلب، العين، الأذن)، لا يستخدمونها للوصول إلى الحقيقة وفهم الآيات الإلهية، وهذه الغفلة تبعدهم عن الصراط المستقيم، حتى لو لم تكن نيتهم الأصلية سيئة. سبب آخر مهم هو "حب الدنيا". لا يعني هذا كراهية الدنيا، فحب المال والأولاد والحياة الجميلة أمر طبيعي. بل يعني أن تصبح الدنيا ومتعلقاتها كل همّ الإنسان وهدفه الأسمى، بحيث يتقدم حب الدنيا على حب الله والآخرة. قد يسعى الفرد صاحب القلب النقي في البداية إلى كسب الثروة أو المكانة الاجتماعية بنية صالحة، ربما ليستخدمها في سبيل الخير، ولكن شيئًا فشيئًا، تشغله جاذبية الدنيا وتبعده عن هدفه الأصلي والروحي. يحذر القرآن الكريم من هذا الخطر: "إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)" (يونس: 7-8). هذه الآيات تبين أن الذين يرضون بالحياة الدنيا ويطمئنون بها ويغفلون عن آيات الله، فإن عاقبتهم هي البعد عن ربهم. حتى الأمور المباحة والملذات الحلال، إذا سيطرت على الإنسان لدرجة أنها ألهته عن ذكر الله والغاية الأساسية من خلقه، يمكن أن تصبح حجابًا وتخلق مسافة. قد يبدأ القلب النقي في الاستمتاع باللذائذ الحلال بنية الشكر على نعم الله، ولكن إذا تحولت هذه اللذة بحد ذاتها إلى هدف، فقد تحرفه عن مساره الأصلي. ولا ينبغي أيضًا إغفال تأثير "الشيطان" ووساوسه. فالشيطان لا يقترب من الأشرار فحسب، بل يتسلل أيضًا إلى أصحاب النوايا الحسنة وحتى العباد، ويضلهم بطرق دقيقة جدًا وغير محسوسة. إنه يزين المعاصي الصغيرة، ويجعل أداء العبادات يبدو صعبًا، ويدفع الإنسان إلى التسويف والتأجيل. على سبيل المثال، قد يوسوس للشخص ذي القلب النقي قائلاً: "أنت لا تزال شابًا ولديك متسع من الوقت للتوبة" أو "انتظر حتى تتحسن الظروف ثم اتجه إلى الله بالكامل". هذه الوساوس، وإن بدت غير ضارة، إلا أنها بمرور الوقت تضعف الاتصال القلبي وتجعل الفرد يشعر بالبعد. يجعل الشيطان الإنسان يشعر بالاكتفاء الذاتي ولا يرى حاجة إلى بذل المزيد من الجهد للتقرب إلى الله، في حين أن طريق القرب الإلهي يتطلب جهدًا ورعاية مستمرة. يصف القرآن الكريم الشيطان بأنه عدو مبين للإنسان ويقول: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ" (فاطر: 6). فالشيطان يتربص بالإنسان دائمًا ليوقعه في الانحراف حتى عن طريق الخير. سبب آخر هو نقص "التفكر والتدبر". القلب النقي وعاء جاهز لاستقبال النور الإلهي، ولكن إذا لم يُملأ هذا الوعاء بالزاد الروحي ولم يُبحَث فيه وتُعمّق فيه الأفكار، فلن يتمكن من إيجاد طريقه الصحيح. قد يمتلك العديد من الأفراد فطرة نقية ويكونون أخلاقيين، ولكن عدم الدراسة، وعدم التفكر في آيات القرآن، وعدم التأمل في دلائل الله في الكون، وعدم الارتباط العميق بتعاليم الدين، يجعل هذا النقاء القلبي لا يترجم إلى عبادة نشطة وعلاقة قوية مع الله. النية الصافية وحدها لا تكفي؛ يجب أن ترافقها العمل والسعي لمعرفة الله بشكل أعمق وطاعته. لكي يبقى الإنسان على الطريق، فإنه يحتاج إلى مرشد، والقرآن وسنة النبي هما خير المرشدين. فإذا غفل شخص ذو قلب نقي عن هذه الهدايات، فقد يضل السبيل. في الختام، هذا البعد عن الله بالنسبة للقلب النقي، عادة ما يكون ليس بسبب العناد أو العداوة، بل بسبب الغفلة، وانشغالات الحياة، والتجاهل للأولويات الرئيسية. باب العودة مفتوح دائمًا، والله أرحم من أن يحرم عبدًا ذا نية طيبة من رحمته. يكفي أن يعود الفرد إلى رشده، ويستيقظ من غفلته، ويصحح أولوياته، ويعود إلى ربه بجدية وإخلاص. ذكر الله، والابتعاد عن وساوس الشيطان، والتفكر في آياته، هي السبل التي تعيد القلب النقي إلى نبع النور والهداية وتزيل هذه المسافة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُحكى أن درويشًا بصفاء باطنه وقلبٍ منير، كان قد أخلص قلبه لذكر الله في خلوته. وذات يوم، مرَّ على قصر تاجرٍ كان ذا مال وجاه وفير، ولكن بقلب طيب ويد سخية. استقبل التاجر الدرويش بإكرام واستضافه لبعض الوقت. لاحظ الدرويش أن التاجر، وإن كان من أهل الخير ولا يحمل ضغينة في قلبه، إلا أنه من الصباح حتى المساء غارق في حسابات تجارته ولقاءاته مع التجار ومعالجة شؤونه الدنيوية. وكان ذكره ودعاؤه لا يتجاوز شفتيه، وقلما يجد فرصة للتفكر في آيات الله. قال الدرويش في نفسه: "كم من قلبٍ هو في أصله نقي وحسن النية، ولكن الغفلة والتعلق ببريق الدنيا يمنعانه من مناجاة المحبوب الحقيقي. ليس عن إنكار، بل عن غياب وعي وانشغال." فقرر الدرويش الرحيل كي لا يقع التاجر في غفلة بسبب كرمه، وقال بابتسامة حانية: "مال الدنيا كالمياه المالحة؛ كلما شربت منها أكثر، ازددت عطشًا. آمل أن يتحرر قلبك من هذه العطشات الظاهرية ويصل إلى النبع العذب لذكر الله." تأثر التاجر، الذي كان يشعر هو نفسه بالبعد في أعماق قلبه، بكلام الدرويش، ومنذ ذلك الحين، حاول أن يخصص وقتًا لذكر الحبيب وسط انشغالاته، وشيئًا فشيئًا، تذوق حلاوة القرب مرة أخرى.

الأسئلة ذات الصلة