لماذا يهرب بعض الناس من الحقيقة؟

يعزو القرآن الهروب من الحقيقة إلى الكبر، واتباع الأهواء، وقسوة القلوب، والخوف من العواقب، والتقليد الأعمى. تنبع هذه الحواجز غالبًا من الخيارات البشرية الداخلية والوساوس الشيطانية، مما يعيق إدراك وقبول نور الهداية.

إجابة القرآن

لماذا يهرب بعض الناس من الحقيقة؟

إن سؤال لماذا يهرب بعض الناس من الحقيقة هو أحد أعمق القضايا في فهم علم النفس البشري ومسار الهداية الإلهية، وهو موضوع تناوله القرآن الكريم بأسلوب فريد. فالقرآن لا يكتفي بإظهار الحقيقة، بل يستعرض بدقة العوائق التي تمنع إدراكها وقبولها. غالبًا ما لا تنبع هذه العوائق من عجز في الفهم، بل من خيارات واعية أو غير واعية تبعد الإنسان عن طريق الحق. دعونا نتتبع هذه الأسباب من منظور قرآني لنحصل على فهم أعمق لهذه الظاهرة، وربما نجد طريقة لتجاوزها. أولاً، وربما الأهم، هو **"الكبر" و"الغرور"**. لقد أشار القرآن مرارًا إلى هذه الصفة المذمومة واعتبرها السبب الرئيسي لابتعاد الكثيرين عن الحق. يمنع الكبر الإنسان من رؤية نفسه بحاجة إلى الهداية، أو من قبول الحق من أي مصدر، حتى لو كان من فرد يبدو "أقل" أو "مختلفًا" في نظرهم. فرعون مثال ساطع على هذا الكبر، فمع مشاهدته للمعجزات الواضحة، رفض قبول حقيقة موسى (عليه السلام). يقول الله تعالى في سورة الأعراف، الآية 146: «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ» (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً؛ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين). هذه الآية توضح بجلاء كيف يحول الكبر دون رؤية وقبول الحقيقة، بل ويجعل الإنسان يظن الباطل حقًا. الكبر يحبس الفرد في فقاعة من خداع الذات ووهم القوة، مما يمنع نور الحقيقة من النفاذ إلى دواخله. ثانيًا، يكمن السبب في **"اتباع الهوى" و"حب الدنيا"**. تتطلب العديد من الحقائق الإلهية التخلي عن متع الدنيا الزائلة، وتغيير نمط الحياة، والالتزام بمبادئ أخلاقية قد تتعارض مع الرغبات النفسية للإنسان. عندما يتخذ الإنسان هواه إلهًا له، فلا يبقى مكان للحقائق الإلهية. يقول القرآن في سورة الجاثية، الآية 23: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة؟ فمن يهديه من بعد الله؟ أفلا تذكرون؟). هذه الآية تبين كيف يمكن أن يؤدي اتباع الهوى إلى العمى الباطني وعدم قبول الحقيقة. ينغمس الناس أحيانًا في مطاردة الرغبات المادية، أو الشهرة، أو الثروة، أو السلطة، لدرجة أن آذانهم تصم وأعينهم تعمى، فلا يرون ولا يسمعون الحقيقة التي هي طريق للتحرر والسلام الأبدي. إنهم يهربون من الحقيقة لأنها تلقي عليهم عبء المسؤولية وجهد التغيير، ويفضلون البقاء في فقاعة اللذات التي يختارونها بأنفسهم، خشية أن يفسد راحتهم الزائفة. إنهم يعتبرون الحقيقة تهديدًا لوضعهم الراهن، وبدلًا من مواجهتها، يحاولون تجاهلها. العامل الثالث هو **"قسوة القلب"** أو "تصلب القلوب". هذه الحالة غالبًا ما تكون نتيجة لتكرار الذنوب، والإهمال تجاه الآيات الإلهية، والإصرار على طريق الباطل. القلوب التي تتصلب بسبب البعد عن ذكر الله وارتكاب المعاصي، لا تعود تقبل نور الهداية وتبقى بعيدة عن تأثير كلام الحق. هذا الوضع يشبه أرضًا جافة صلبة يهطل عليها مطر الرحمة ولكن لا تستطيع أن تتشربه. يشير الله تعالى إلى هذا في سورة البقرة، الآية 74: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو أشد قسوة؛ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله؛ وما الله بغافل عما تعملون). قسوة القلب تقضي على القدرة على إدراك الحقيقة والتأثر بها، وتحول الفرد إلى كائن عديم الإحساس تجاه الحقائق الروحية. هذه الحالة تعطل بشدة قدرة الفرد على السماع والفهم والاستجابة للدعوة الإلهية. من تصلب قلبه، حتى عندما تظهر الحقيقة بوضوح أمام عينيه، ينكرها أو يدير ظهره لها لأنه لا يمتلك أي حساسية تجاهها. رابعاً، هناك **"الخوف من التبعات" و"عواقب قبول الحقيقة"**. أحيانًا يدرك الأفراد الحقيقة، لكنهم يرفضون قبولها لأنهم يعلمون أن قبولها يستلزم تغييرات كبيرة في حياتهم. قد تشمل هذه التغييرات فقدان المكانة الاجتماعية، أو فقدان الأصدقاء، أو تغيير عادات متأصلة، أو مواجهة مسؤوليات يخاف منها الفرد أو يراها صعبة. يوضح القرآن بوضوح أن العديد من الناس يعرفون الحقيقة ولكنهم ينكرونها من أجل مصالح مادية أو خوفًا من فقدان السلطة والمكانة (مثلاً إنكار أهل الكتاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه جيداً للحفاظ على مكانتهم ومصالحهم). إنهم يفضلون قبول كذبة مألوفة ومريحة على حقيقة غير سارة ومليئة بالتحديات. غالبًا ما ينبع هذا الخوف من الخسارة من التعلق الشديد بالعالم المادي وعدم الإيمان بالوعود الإلهية. خامسًا، يلعب **"التقليد الأعمى للآباء" و"الضغوط الاجتماعية"** دورًا. يرفض بعض الأفراد قبول الحقيقة بسبب تعصبهم لتقاليد وعادات أسلافهم، أو بسبب خوفهم من النبذ من قبل المجتمع والعائلة. حتى لو اتضحت لهم الحقيقة، فإنهم يفضلون الانصياع للجماعة خشية أن يُشار إليهم بالبنان ويُعزلوا عن دائرتهم الاجتماعية المحترمة. في سورة البقرة، الآية 170، نقرأ: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: [لا] بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. أوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون؟). تبين هذه الآية كيف يمكن أن يمنع التعصب للتقاليد الخاطئة قبول الهداية الإلهية. يتجنب هؤلاء الأفراد الحرية الفكرية والاستقلالية في الاختيار ويفضلون البقاء في الأمان النسبي للجماعة، حتى لو كانت الجماعة على باطل. أخيرًا، تلعب **"الوساوس الشيطانية"** دورًا مهمًا. الشيطان عدو مبين للإنسان، وهو يسعى دائمًا لتشويه الحق في عينيه، وتجميل الشرور، وجعل الخير غير مستساغ. يضل الإنسان عن طريق الحق بوعود كاذبة وتهديدات بالفقر أو عواقب وهمية، ويجعل طريق الباطل يبدو جذابًا له. وقد أشار القرآن الكريم في آيات عديدة إلى وساوس الشيطان وإضلاله للإنسان (مثل سورة فاطر، الآية 6: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ» (إن الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عدوا؛ إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)). يدفع الشيطان الإنسان من خلال الخداع والإغواء إلى الهروب من الحقيقة ويخلق له وهم الراحة في طريق الذنب والغفلة. في الختام، إن الهروب من الحقيقة في القرآن له جذور عميقة في خيارات الإنسان الداخلية؛ من الكبر والهوى إلى قسوة القلب والمخاوف الدنيوية، وكذلك التأثيرات الخارجية مثل الضغوط الاجتماعية والوساوس الشيطانية. يقدم القرآن طريق الخروج من هذه العوائق من خلال تزكية النفس، والتدبر في الآيات الإلهية، والتوبة، وذكر الله، والاستعانة بالصبر والصلاة. هدف القرآن هو دعوة الإنسان إلى الحقيقة لكي يتحرر من قيود الضلال والشقاء ويصل إلى السعادة والراحة الأبدية. هذه عملية مستمرة تتطلب اليقظة، والوعي الذاتي، والإرادة القوية لمواجهة النفس والوساوس الشيطانية. لا أحد مجبر على الهروب من الحقيقة؛ فالطريق دائمًا مفتوح للعودة وقبول نور الحق، شريطة أن يكون القلب والعقل مستعدين لاستقباله. هذه معركة داخلية يجب على كل فرد أن يخوضها ليبلغ الفلاح ويتحرر من قيود الجهل والغفلة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في بستان سعدي، يُروى أن ملكًا عادلاً كان له وزير حكيم. سأل الملك وزيره يومًا: "ما هو أشد شيء مرارة في العالم؟" فكر الوزير قليلًا ثم قال: "يا أيها الملك! الحقيقة، عندما تكون مخالفة لرغبة النفس وهواها." ابتسم الملك وقال: "صدقت! كم هم كثر الذين، خوفًا من سماع حقيقة غير سارة، يقعون في فخ الأوهام ويديرون ظهورهم لنور الهداية، خشية أن يزعج راحتهم المؤقتة. ولكن من يقبل الحقيقة، مهما كانت مريرة، فقد وجد طريق الخلاص." هذه الحكاية تذكرنا بأن ما نهرب منه أحيانًا هو بالضبط ما نحتاجه أكثر من أي شيء آخر.

الأسئلة ذات الصلة