يبتعد بعض الناس عن الروحانية بسبب التعلق المفرط بالحياة الدنيا، والغفلة عن غاية الخلق، واتباع أهوائهم. تمنع هذه العوامل الفهم الصحيح وتجربة السلام الحقيقي الذي يوجد في الاتصال بالله.
السؤال المطروح هو أحد الأسئلة العميقة التي تناولها القرآن الكريم بطرق مختلفة. هروب الإنسان من الروحانية ظاهرة معقدة لها جذور متعددة، والكلمة الإلهية تحللها بوضوح وبصيرة خاصة. يقدم القرآن طبيعة الإنسان على أنها فطرية تبحث عن الله والحق، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى العوائق والحجب التي تغطي هذه الفطرة النقية وتبعده عن مسار الروحانية. العوامل الرئيسية الثلاثة التي تبعد الإنسان عن الروحانية من منظور القرآن هي: التعلق الشديد بالحياة الدنيا، والغفلة والنسيان عن غاية الخلق والمصير، واتباع الهوى والكبر. أحد أهم الأسباب التي يؤكد عليها القرآن مرارًا هو التعلق المفرط بالحياة الدنيا وملذاتها (حب الدنيا). الدنيا، في نظر القرآن، هي مزرعة للآخرة وجسر للوصول إلى الكمال، ولكن إذا تحولت إلى غاية نهائية، فإنها تصبح حجابًا كثيفًا يغطي نور الروحانية. في آيات كثيرة، وصفت الدنيا بأنها متاع قليل، زينة خادعة، لهو ولعب. البشر الذين يوجهون كل جهودهم وطموحاتهم نحو كسب المال، والجاه، والمكانة، والشهرة، والملذات الدنيوية الزائلة، يغفلون لا شعوريًا عن ذكر الله والهدف الأساسي للحياة. يصل هذا التعلق إلى درجة أن القيم الروحية، مثل الصلاة، والإنفاق، والصبر، والشكر، تبدو غير مهمة مقارنة بالأهداف المادية. يقول القرآن الكريم في سورة آل عمران، الآية 14: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ". هذه الآية تبين أن هذه التعلقات، وإن بدت طبيعية، يمكن أن تمنع الإنسان من هدفه الأساسي. أو في سورة الكهف، الآية 46: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا". هذه الآية توضح بجلاء أنه على الرغم من أن المال والأولاد زينة الحياة، إلا أن الأعمال الصالحة والتوجه الروحي هما الأبقى والأكثر قيمة. عندما يكرس الإنسان كل طاقته وفكره للملذات والتنافسات المادية والأماني اللانهائية، فإنه لا يجد فرصة ولا دافعًا للاهتمام بالأمور الروحية والباطنية. هذا السعي اللامتناهي، بدلاً من أن يجلب السكينة، يؤدي إلى القلق والاضطراب، لأن القلب تعلق بشيء فانٍ وزائل. غالبًا ما يكون الشخص الذي يتخلى عن الروحانية في حالة هروب من الفراغ الداخلي والقلق الذي أحدثه هذا التعلق بالدنيا، ويرى بالخطأ أن الحل يكمن في زيادة هذه التعلقات، لا في التخلص منها. العامل الثاني هو الغفلة والنسيان. الغفلة هي حالة من عدم الوعي واللامبالاة العميقة بحقائق الوجود ومكانه المرء فيه. الإنسان الغافل، يغفل عن آيات الله في الآفاق وفي نفسه، وعن تدبيره وحكمته الإلهية في الكون، وعن المعاد ويوم الحساب. يؤدي هذا الجهل إلى الانحراف عن طريق الحق. يقدم القرآن في سورة الأعراف، الآية 179، وصفًا مؤثرًا للغافلين: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ". تُظهر هذه الآية أن الغفلة تعطل الوظيفة الطبيعية لقوى الإدراك لدى الإنسان؛ فالقلب لا يفهم، والعين لا ترى، والأذن لا تسمع. هؤلاء الأفراد، حتى عند رؤية الآيات الإلهية الواضحة أو سماع الرسائل المضيئة، لا يستطيعون إدراك الحقيقة، لأن حجاب الغفلة قد سقط على قلوبهم. تنبع الغفلة من انغماس الإنسان في دائرة الحياة اليومية إلى درجة أنه لا يجد فرصة للتأمل في معنى الوجود، وهدف الحياة، ومصيره. إنهم يسعون باستمرار وراء الأمور السطحية والعاجلة ويغفلون عن النظر في العمق والثبات. هذا النسيان هو اختيار لا شعوري يمنع الفرد من الانخراط في الأمور الروحية والتواصل مع مصدر الوجود، لأنه لا يشعر بالحاجة إلى هذا الاتصال أو يعتبره عائقًا أمام خططه الدنيوية. السبب الثالث هو اتباع الهوى والكبر. النفس الأمارة بالسوء (النفس التي تأمر بالشر)، والميل إلى الشهوات، والسعي وراء اللذة بلا حدود، والأنانية، تدفع الإنسان نحو اعتبار أي قيود أو أوامر إلهية عائقًا لحريته. عندما يسيطر الهوى على العقل والفطرة، يرفض الإنسان قبول الحقيقة، حتى لو عرفها. يقول القرآن في سورة الفرقان، الآية 43: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا". هذه الآية توضح بجلاء أن الإنسان عندما يطيع هواه، فإنه في الواقع يعبد نفسه بدلاً من الله. مثل هذا الشخص لا يرضى بأن يقيد نفسه بأحكام الشرع وآدابه، لأنه يراها متعارضة مع ملذاته ورغباته. وكذلك، يلعب الكبر والغرور دورًا هامًا في الابتعاد عن الروحانية. يرى الإنسان المتكبر نفسه أرفع من أن يحتاج إلى هداية إلهية أو أن يخضع لقوة عليا. يقيس كل شيء بعقله الناقص، ويرفض قبول أي شيء يتجاوز إدراكه. يمنعه هذا الكبر من سماع النصيحة وقبول الحقائق الروحية، ويؤدي إلى إغلاق أبواب قلبه أمام النور الإلهي. لا يبعده هذا الوضع عن معرفة الذات ومعرفة الله فحسب، بل يغرقه في وهم الاكتفاء الذاتي الذي لا يؤدي إلا إلى العزلة والعبث. بالإضافة إلى هذه العوامل الثلاثة، تلعب وساوس الشيطان دورًا تكميليًا. فالشيطان يتربص دائمًا ليصرف الإنسان عن الصراط المستقيم بتزيين الباطل وتصعيب الحق. فهو يزيد من التعلق بالدنيا، والغفلة، واتباع الهوى بوعود دنيوية كاذبة وبث الخوف من العواقب الروحية، ويدفع الإنسان نحو الهروب الكامل من الروحانية. يضعف الإيمان بإثارة الشكوك والشبهات في القلوب، ويمهد الطريق لهيمنة الميول الدنيوية. في الختام، يقدم القرآن أيضًا طريق النجاة والعودة إلى الروحانية: ذكر الله، والتفكر والتدبر في آياته، والصبر والثبات، والسعي لتزكية النفس، والعمل الصالح. الإنسان الذي يهرب من الروحانية، يهرب في الواقع من السكينة الحقيقية والهدف الأساسي للحياة. العودة إلى الروحانية هي عودة إلى الفطرة وإلى موطن الروح الأصلي، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالوعي والتوبة والجهد المستمر، ونتيجته السكينة والسعادة الدائمة في الدنيا والآخرة. هذا الهروب غالبًا ما يكون خوفًا من فقدان الملذات الوهمية أو المصاعب الظاهرية، بينما السكينة الحقيقية تكمن في التخلي عن هذه المخاوف واللجوء إلى حضن الرب. إن هذا الهروب من الروحانية يحول الإنسان تدريجيًا إلى كائن استهلاكي، بلا هدف، ومضطرب، وكلما ابتعد عن جذوره الفطرية، كلما غرق أكثر في بحر القلق والعدمية. يدعو القرآن مرارًا الإنسان إلى اليقظة والعودة، دعوة ليست للتقييد، بل لتحرير الروح من قيود العبودية الدنيوية والتحليق نحو الكمال اللامتناهي. عدد الكلمات: 880 كلمة
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك تاجر ثري يمتلك ثروة هائلة، لكنه لم يجد راحة البال قط، وكان دائم السعي لزيادة ممتلكاته. حتى في فراش نومه، بدلًا من الراحة، كانت أفكاره تستهلكها الأعمال وزيادة الثروة. في إحدى الليالي، غلب عليه حزن وقلق عظيمان، فطار النوم من عينيه، وقال في نفسه: "لماذا، مع كل هذه الثروة، لا أشعر بالسكينة، بينما أعرف درويشًا ينام هانئًا مرتاح البال بقطعة خبز جافة فقط؟" في الصباح، ذهب إلى الدرويش وأخبره بحاله. ابتسم الدرويش وقال: "يا صديقي، أنت أسير في سجن ذهبك وفضتك، أما أنا فحُر، لا أملك شيئًا وقانع بذلك. السكينة لا تكمن في زيادة الدنيا، بل في التخلي عن تعلقاتها والتوجه نحو ما هو أبقى." تأثر التاجر بكلام الدرويش وأدرك أن تعلقه اللامحدود بالدنيا وغفلته عن الروح وحقيقة الوجود قد حرمه من تذوق حلاوة الروحانية والسلام الداخلي. فقرر من ذلك الحين، بدلاً من تكديس المال، أن يعمر قلبه بذكر الله والإحسان إلى الخلق، وأدرك أن الكنز الحقيقي يكمن في داخل الإنسان، وأنه بالتوجه إليه فقط يمكن للمرء أن يتحرر من الآلام والقلق. وجد السكينة في الروحانية، لا في الثروة.