لماذا لا نزال نشعر بالفراغ على الرغم من التقدم العلمي؟

الشعور بالفراغ رغم التقدم العلمي ينبع من إهمال الاحتياجات الروحية للإنسان والهدف الحقيقي من خلقه. يؤكد القرآن أن السلام الحقيقي يتحقق بذكر الله والاتصال بالروحانية، وليس فقط بالإنجازات المادية.

إجابة القرآن

لماذا لا نزال نشعر بالفراغ على الرغم من التقدم العلمي؟

لقد جلبت التطورات العلمية الهائلة والمذهلة في العصر الحديث راحة وسرعة ووصولاً غير مسبوق للمعلومات في جوانب عديدة من حياتنا. فمن الاكتشافات الطبية إلى تقنيات الاتصال والاستكشافات الفضائية، تمكن الإنسان من توسيع حدود معرفته بشكل مذهل وكشف العديد من أسرار العالم المادي. ومع ذلك، فمن المستغرب أن العديد من الأفراد في المجتمعات المتقدمة لا يزالون يعانون من مشاعر الفراغ والعبث والقلق والاكتئاب. يبدو هذا تناقضاً غريباً: كلما زادت معرفتنا وقدرتنا على التحكم في العالم المادي، لماذا يتناقص السلام الداخلي والرضا؟ يمكن البحث عن إجابة هذا السؤال في النظرة الشاملة للوجود والإنسانية التي يقدمها القرآن الكريم. يعلمنا القرآن الكريم أن الإنسان ليس مجرد كائن مادي يمكن تلبية احتياجاته فقط بالتقدم العلمي والرفاهية الدنيوية. فالإنسان يمتلك روحًا لها احتياجات أعمق؛ احتياجات ذات طبيعة روحانية، تتضمن الهدفية، والتواصل مع الخالق، وفهم مكانة الإنسان في الكون. في الحقيقة، التقدم العلمي بحد ذاته ليس هو الهدف الأسمى من الخلق، بل هو وسيلة لمعرفة عظمة الرب بشكل أفضل وتسهيل حياة يمكن للإنسان من خلالها أن يؤدي واجبه الأساسي، ألا وهو العبودية والتحرك نحو الكمال. يوضح القرآن هذه الحقيقة بأن الهدف الأساسي من خلق الإنسان والجن هو عبادة الرب، كما جاء في سورة الذاريات، الآية 56: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). عندما يغفل الإنسان عن هذا الهدف الأساسي، وينصب كل اهتمامه وجهده على جمع الماديات ومتع الحياة الدنيا، يتسلل إليه شعور بالفراغ تدريجياً. هذا الفراغ ليس بسبب نقص في الإمكانيات، بل بسبب عدم إشباع الاحتياجات الروحية والمعنوية. فالمعرفة العلمية، وإن كانت تنير العالم، لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الوجودية الأساسية للإنسان مثل: 'من أين أتيت؟'، 'لماذا أتيت؟'، و'إلى أين أذهب؟'. هذه الأسئلة لا تجد معناها إلا في ظل التعاليم الوحيانية والتواصل مع مصدر الوجود، وهو الله تعالى. يؤكد القرآن أن الطمأنينة الحقيقية للقلوب لا تتحقق إلا بذكر الله. ففي سورة الرعد، الآية 28، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذه الآية توضح بجلاء أن مصدر السلام الداخلي والتحرر من الفراغ ليس في التطورات المادية والتكنولوجية، بل في الاتصال الروحي بالخالق. التقدم العلمي يمكن أن يحسن بيئتنا المادية، لكنه لا يستطيع ملء الفراغ الروحي الناتج عن نسيان الله والهدف الأساسي من الحياة. إضافة إلى ذلك، يحذر القرآن الإنسان من التعلق المفرط بالحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة، فهذا يؤدي إلى الضلال والشقاء. ففي سورة طه، الآية 124، جاء: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى). إن 'معيشة ضنكا' أو الحياة الضيقة والصعبة، لا تعني بالضرورة الفقر المالي، بل يمكن أن تعني حياة تعاني من الضيق والضغط من الناحية الروحية والمعنوية، حتى لو كانت مزدهرة مادياً. هذا هو الشعور بالفراغ الذي يعاني منه الكثير من الناس على الرغم من التقدم العلمي. هذا الضيق الروحي والمعنوي هو نتيجة الإعراض عن ذكر الله والهدف الأساسي من الخلق. ويوجه القرآن أيضاً نظر الإنسان من قيود العالم الفاني إلى الأبدية والحياة الأبدية في الآخرة. ففي سورة الكهف، الآية 46، نقرأ: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا). هذه الآية توضح بجلاء أن القيم الباقية، ليست في الإنجازات المادية الفانية، بل في الأعمال الصالحة والاتصال الروحي بالله. عندما يكون كل تركيز الإنسان على جمع هذه الزينة الفانية، فمن الطبيعي أن يتغلب عليه في النهاية شعور باللاهدفية والفراغ، لأن هذه الأمور لا تستطيع إشباع عطش الروح الداخلي للحقيقة والمعنى الأبدي. لذلك، فإن التقدم العلمي لا يمكن أن يحل محل الاحتياجات الروحية والوجودية للإنسان أبداً. في الواقع، العلم بدون روحانية يشبه الجسد بدون روح. للتغلب على شعور الفراغ، من الضروري أن يعود الإنسان بكل كيانه إلى المصدر الحقيقي للسلام، وهو رب العالمين. يتحقق هذا العودة من خلال العبادة، والذكر، والتفكر في الآيات الإلهية، وخدمة الخلق، والعيش بهدف ومعنى قرآني. في هذه الحالة، لن يساعد العلم والمعرفة فقط في تلبية الاحتياجات المادية، بل سيكونان طريقاً لتعميق الإيمان وتحقيق السلام الداخلي الدائم، وتحويل الفراغ إلى رضا ومعنى.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

كان في قديم الزمان، بمدينة مزدهرة، تاجر ثري جداً يمتلك قصوراً فخمة، وقوافل محملة بالبضائع، وخدماً وحشماً لا يُحصون. كان الجميع يعتقد أنه في قمة السعادة، لكن قلبه كان دائمًا في قلق واضطراب؛ ليس من كساد السوق، بل من فراغ وعبثية كانت تتوارى خلف كل ابتسامة ظاهرية. كل ليلة، على الرغم من كل ما يمتلك، كان يشعر بفراغ، ولم يأتيه السلام. في نفس المدينة، وفي زاوية متواضعة، كان يعيش درويش بسيط القلب بملابس مرقعة وحذاء مهترئ. لم يكن يمتلك شيئاً مادياً، لكن قلبه كان يفيض بذكر الله. كان يستيقظ كل صباح بابتسامة تبعث على الطمأنينة، وينام كل ليلة بقلب هادئ. ذات يوم، مر التاجر بجانب الدرويش ورآه يهمس بالذكر ووجهه مشرق. فسأله: "أيها الدرويش، أنت لا تملك شيئاً، لكن هدوءك يجعل قلبي يحسدك. أنا مع كل هذه الثروة، لماذا لا أمتلك لحظة من هذا السلام؟" ابتسم الدرويش وقال: "يا صديقي، لقد أمضيت حياتك كلها في جمع 'الممتلكات' ولم تهتم بـ 'الوجود'. ما يؤلمك هو عدم اتصال قلبك بمصدر السلام، وليس نقص المال. القلب يجد السلام فقط بذكر الله، وليس بجمع المال والمناصب. فكلما زاد العلم والثروة، إذا غفلت الروح، زاد الفراغ وتمكن منك." تأثر التاجر بكلام الدرويش وبدأ يتأمل في حياته، لعله يجد طريقاً نحو السلام الحقيقي.

الأسئلة ذات الصلة