عدم التغيير بعد قراءة القرآن غالبًا ما يعود إلى نقص التدبر، وعدم العمل بالتعاليم، وغياب النية الخالصة. فالقرآن يتطلب فهمًا عميقًا، وتطبيقًا عمليًا، واتصالًا قلبيًا لإحداث التحول الحقيقي.
يا أخي أو أختي الكريمة، سؤالك عميق جدًا وهو من الهواجس التي تشغل بال الكثيرين ممن يسعون للنمو والتغيير الروحي. القرآن الكريم، كلام الله النوراني الهادي، أنزل ليخرج الناس من ظلمات الجهل والضلالة إلى نور الهداية. يقول الله تعالى في سورة إبراهيم، الآية 1: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ». هذه الآية تبين بوضوح هدف نزول القرآن: إحداث تغيير وتحول جذري في الإنسان. فإذا لم نجد تغييرًا في أنفسنا على الرغم من قراءة القرآن، فالخلل ليس في الكلام الإلهي، بل يجب أن نعود إلى كيفية تعاملنا وتفاعلنا مع هذا الكتاب السماوي. وسنتناول فيما يلي الأسباب الرئيسية لهذه المسألة والحلول القرآنية لها. السبب الأول وربما الأهم هو عدم «التدبر» في آيات القرآن. كثير منا يقرأ القرآن، وربما يوميًا، ولكن هل نفكر بعمق في معانيه؟ هل نتأمل في رسائله وتعاليمه؟ يقول الله تعالى في سورة محمد، الآية 24: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا». هذه الآية تشير إلى أن التدبر هو مفتاح فتح أقفال القلوب. التدبر يعني تجاوز مجرد التلاوة والترجمة الحرفية؛ يعني الغوص عميقًا في المفاهيم العميقة للآيات، واكتشاف صلتها بحياتنا، وسؤال أنفسنا: ما هي الرسالة التي تحملها هذه الآية لي هنا والآن؟ عندما نقرأ آية عن الصبر، هل نفكر في المواقف في حياتنا التي تتطلب الصبر؟ عندما نقرأ آية عن العدل، هل نتأمل في سلوكياتنا تجاه الآخرين؟ إذا لم يكن هناك تدبر، فالقرآن يبقى مجرد نغم جميل يمر بالأذن، وليس رسالة تستقر في الروح وتحولها. السبب الثاني هو عدم «العمل» بتعاليم القرآن. القرآن ليس للعلم فقط، بل هو للعمل. يقرن الله في آيات عديدة الإيمان بالعمل الصالح. في سورة العصر يقول: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ». معرفة أن الغيبة سيئة شيء، والامتناع العملي عنها شيء آخر. معرفة أن الصدق فضيلة شيء، وأن تكون صادقًا دائمًا شيء آخر. إذا قرأنا القرآن واستمتعنا به باستمرار ولكننا لم نخطُ أي خطوة لتطبيق أوامره في حياتنا، فمن الطبيعي ألا يحدث أي تغيير. القرآن هو خارطة طريق، ولكن ما لم نتحرك وفقًا للخارطة، فلن نصل إلى وجهتنا. العمل بالقرآن يعني تحويل المعرفة إلى بصيرة، والبصيرة إلى سلوك. تتطلب هذه العملية مجاهدة النفس ومقاومة الإغراءات. العامل الثالث هو عدم «الإخلاص» و«النِّيَّة» الصافية. هل نقرأ القرآن لمجرد الثواب، أو للمظهر الديني، أو كعادة فقط؟ أم أننا بصدق وإخلاص نرغب في أن يغير كلام الله قلوبنا؟ النية تمنح الروح لأعمالنا. يقول الله تعالى في سورة البينة، الآية 5: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ». عندما نقف أمام الكلام الإلهي بنية صادقة وتواضع، فإن قلوبنا تصبح مستعدة لتلقي نور الهداية. أما إذا كانت النوايا ملوثة بالرياء أو الغفلة، فإن تأثير الكلمة الإلهية يضعف. المسألة الرابعة هي «الغفلة» و«قساوة القلب». في بعض الأحيان، تلوث الحياة الدنيا الصاخبة، والتعلقات المادية، والهموم اليومية قلوبنا وتجعلها غافلة. يأتي القرآن ليغسل هذه الأدران ويوقظ القلوب. ولكن إذا كان قلبنا مغلقًا أمام الآيات الإلهية أو قسا بسبب كثرة الذنوب وترك الواجبات، فإن كلام الله سيؤثر فيه أقل. في سورة الأنفال، الآية 2، نقرأ: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ». إذا كانت قراءة القرآن لا تزيد إيماننا ولا تزيد خشيتنا من الله، فيجب أن ننظر إلى حالة قلوبنا. النقطة الخامسة هي «المداومة» و«الصبر». التغيير عملية، وليس حدثًا فوريًا. قراءة القرآن والسعي لفهمه والعمل به هو مسار مستمر. لا ينبغي أن نتوقع أن تتغير الأمور كلها بعد بضع قراءات. يؤكد الله في سورة العصر على التواصي بالصبر. التحول الروحي يتطلب المداومة، والاستقامة، والجهد المستمر. قليل من التدبر، قليل من العمل، قليل من التوبة، وقليل من الذكر كل يوم، يمكن أن يحرك الجبال بمرور الوقت. لإحداث تغيير حقيقي، يُقترح ما يلي: 1. اقرأ القرآن بالتدبر: بالإضافة إلى التلاوة، خصص بضع دقائق يوميًا لدراسة ترجمة وتفسير الآيات. استخدم التفاسير الموثوقة. توقف عند كل آية واسأل نفسك: "ما هي الرسالة التي تحملها هذه الآية لي؟ كيف يمكنني تطبيقها في حياتي؟" 2. اقرأ القرآن للعمل به: اختر كل يوم درسًا أو أكثر من القرآن وحاول تطبيقه في سلوكك. على سبيل المثال، إذا كانت الآية تتحدث عن الصدق، فكن حذرًا في كلامك في ذلك اليوم. إذا كانت الآية عن التسامح، فحاول أن تغفر خطأ شخص ما. العمل هو مكمل للعلم. 3. اقترب من القرآن بنية خالصة: قبل أن تبدأ التلاوة أو الدراسة، طهر نيتك قائلاً: "يا الله، هذا كلامك وأنا متعطش لهدايتك. ساعدني على الاستفادة منه والعمل به." 4. جهِّز قلبك: اطلب المغفرة من الله لتطهير قلبك وإزالة أدران الذنوب. حاول الابتعاد عن الذنوب، لأنها تخلق حجابًا بيننا وبين النور الإلهي. الصلاة والذكر والدعاء يمكن أن تلين القلب. 5. كن ثابتًا ومداومًا: حتى لو كان قليلاً، اقرأ القرآن باستمرار وتدبر فيه. التغييرات الكبيرة هي نتيجة لخطوات صغيرة ومستمرة. لا تيأس واستمر بالتوكل على الله. تذكر أن القرآن شفاء للقلوب ونور للطريق. إذا ارتبطنا بهذا الكتاب العزيز بنية صحيحة، وتدبر عميق، وعزيمة راسخة على العمل به، فلا شك أن حياتنا ستتغير، وسيظهر النور الإلهي في كياننا. يقول الله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا». هذه الآية تبين أن تأثير القرآن يعتمد على إيمان القارئ وحالة قلبه. فلنتقدم بقلب مستعد وإيمان راسخ نحو بحر الحكمة هذا.
يروى في كتابات سعدي، أنه كان هناك عالم أمضى سنوات في جمع الكتب وحفظ النصوص، وكان لديه معرفة واسعة بالقرآن والحديث والعديد من القصائد. كان الناس يثنون عليه ويغبطون علمه. في أحد الأيام، قال له درويش حكيم: «يا حكيم، لسنوات لسانك مشغول بالذكر وقلبك بالعلم. ولكن إذا لم تستقر هذه المعرفة كنور في قلبك وتغير سلوكك، فما الفرق بينك وبين تلك الكتب التي تتراكم عليها الأتربة في الرفوف؟ إن العلم الحقيقي هو الذي يزيل صدأ الجهل والغفلة من مرآة القلب ويهديك نحو الكمال.» شعر العالم بالإهانة في البداية من هذه الكلمات، ولكن بعد تفكير عميق، أدرك أن الحكمة تكمن في العمل، وليس فقط في تراكم المعلومات. منذ ذلك الحين، بدأ يتفكر فيما قرأه وسعى جاهدًا لجعل كل آية وحديث نورًا هاديًا لحياته. وهكذا، حدث تحول عميق في كيانه، ووجد سلامًا لم يعرفه من قبل.