صعوبة العمل رغم فهم الحقيقة تنبع من عوامل داخلية كالنفس الأمارة بالسوء وخارجية مثل وساوس الشيطان والتعلق بالدنيا. القرآن يقدم الحل في الإيمان، العمل الصالح، التواصي بالحق، والصبر.
يا أخي أو أختي الكريمة، السؤال الذي طرحته يلامس أحد أعمق التحديات الوجودية وأكثرها جوهرية التي تواجه الإنسان؛ وهو تحدٍ لطالما شغل عقول الفلاسفة والعارفين والمتدينين عبر التاريخ. فهم الحقيقة يشبه النور الذي يضيء الطريق، لكن السير في ذلك الطريق المضيء واتخاذ الخطوات نحو الهدف قصة مختلفة تمامًا. القرآن الكريم، بنظرته الواقعية لأبعاد الوجود الإنساني، يتتبع جذور هذه الصعوبة ويقدم حلولًا للتغلب عليها. هذه الصعوبة ليست ظاهرة أحادية البعد؛ بل هي مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية تتضافر لتخلق فجوة بين العلم والعمل. أحد الأسباب الرئيسية لهذه الصعوبة هو وجود 'النفس الأمارة بالسوء' في كيان الإنسان. النفس الأمارة هي ذلك البعد من وجودنا الذي يدفعنا نحو الرغبات الجامحة والمتقلبة، حتى لو كانت هذه الرغبات تتعارض مع حقيقتنا ومصلحتنا الحقيقية. في سورة يوسف، الآية 53، يقول الله تعالى على لسان نبي الله يوسف عليه السلام: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. هذه الآية تُظهر بوضوح أن النفس البشرية، بدون رعاية وتوجيه إلهي، لديها ميل قوي لاتباع الهوى والعصيان. هذه المعركة الداخلية تُسمى بالجهاد الأكبر، وتتطلب جهدًا وصبرًا عظيمين. في كثير من الأحيان، يفهم الإنسان الحقيقة، ولكن الملذات الدنيوية الزائلة، الكسل، الخوف من فقدان المكانة، أو حتى الغرور، يمنعه من ترجمة تلك الحقيقة إلى عمل. هذا الصراع المستمر يدل على عظمة وقيمة الوصول إلى الإيمان العملي والتقوى. العامل الثاني هو وساوس 'الشيطان'. الشيطان هو العدو المبين للإنسان، الذي يسعى بكل طاقته ليصرف الإنسان عن طريق الحق. إنه يُقدم وعودًا كاذبة، ويُزين متاع الدنيا في عيون الإنسان، ويُخفي قبح المعاصي. في سورة البقرة، الآية 208، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾. الشيطان يعد الإنسان بالفقر ليمنعه من الإنفاق، ويأمره بالفحشاء. إنه يتربص بالإنسان باستمرار ليمنعه من العمل بما يعرف أنه صحيح. وساوسه دقيقة وخفية، وغالبًا ما تظهر في ثوب النصيحة أو المنطق. العامل الثالث هو 'التعلق بالحياة الدنيا' ومظاهرها. الدنيا، بجاذبيتها الزائلة، يمكن أن تبعد الإنسان عن الهدف الأساسي من الخلق وعن العمل بالحق. المال والثروة، الجاه والمكانة، الشهرة والجمال، كلها يمكن أن تخلق حجابًا على بصر الإنسان وتمنعه من السير نحو الحق. القرآن الكريم يذكر الإنسان مرارًا وتكرارًا بزوال الدنيا وبقاء الآخرة. ولكن التعلق بهذه الزخارف يجعل الإنسان كسولًا ويدفعه نحو حب الراحة والتهرب من المسؤوليات. هذا التعلق غالبًا ما يؤدي إلى أن الإنسان، حتى لو عرف ما هو الصواب، لا يستطيع التخلي عنه من أجل المصالح الدنيوية، وبالتالي يصبح العمل صعبًا. العامل الرابع هو 'الخوف من نتائج العمل' أو 'الخوف من حكم الناس'. أحيانًا، يدرك الإنسان الحقيقة ويعلم أنه يجب أن يعمل بها، لكنه يخشى ردود فعل المجتمع، أو فقدان السمعة، أو مواجهة المشاكل. هذا الخوف يمكن أن يكون عائقًا كبيرًا في طريق العمل. القرآن يمنح المؤمنين الشجاعة ليخشوا الله وحده وليس خلقه. في العديد من الآيات، يؤكد الله على التوكل عليه وعدم الخوف من سواه. ومع ذلك، فإن القرآن لا يقتصر على ذكر المشاكل، بل يقدم حلولًا أيضًا. الحل الأهم هو 'الإيمان والعمل الصالح'. في سورة العصر، الآيات من 1 إلى 3، يقول الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾. هذه السورة القصيرة هي خارطة طريق شاملة للتغلب على هذه الصعوبات. الإيمان وحده لا يكفي؛ فالعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر هي الأركان الأساسية للنجاة والفلاح. 'التواصي بالحق' يعني ألا نكتفي بمعرفة الحقيقة والعمل بها بأنفسنا، بل أن ندعو الآخرين إليها وننهاهم عن الباطل. وهذا بدوره يقوي إيماننا وعزيمتنا. و'التواصي بالصبر' يعني الثبات والمقاومة في مواجهة المشاكل والوساوس. وهذا الصبر يشمل الصبر على طاعة الله، والصبر عن المعاصي، والصبر على المصائب والشدائد. كذلك، 'ذكر الله'، 'الصلاة والعبادات'، و'تزكية النفس' هي طرق قرآنية أخرى لتقوية الإرادة وتقليل الفجوة بين العلم والعمل. بذكر الله الدائم، يهدأ القلب وتُكبح النفس الأمارة. في الختام، يجب أن نعلم أن هذه الصعوبة جزء من الابتلاء الإلهي، وكلما اجتهد الإنسان أكثر في هذا الطريق، كان أجره عند الله أعظم. هذا الصراع لا يضعف الإنسان، بل يجعله أقوى وأقرب إلى الكمال.
يُروى في روضة السعدي أن ملكًا رأى عارفًا فسأله: «لماذا كثير من الناس، مع أنهم يعرفون الحقيقة، لا يعملون بها؟» فأجاب العارف: «أيها الملك، العلم كالسفينة، والعمل كالشراع. فمهما كانت السفينة كبيرة وقوية، فإنها لن تتحرك بدون شراع ولن تصل إلى وجهتها. قلوب الناس كذلك؛ قد تعرف الحقيقة، ولكن بما أن الكسل وأهواء النفس لا ترفع شراع أعمالهم، فإنهم يظلون تائهين في بحر الحياة ولا يصلون إلى شاطئ المقصود. وأحيانًا، ينفخ الشيطان رياحًا من الوساوس التي تُضل سفينة العلم، إلا إذا تمسك قبطان الصبر والتوكل بالدفة بقوة.» أخذ الملك العبرة من هذا الكلام وأدرك أن المعرفة وحدها لا تكفي، بل إن الإرادة والجهاد الداخلي هما اللذان يوصلان الإنسان إلى غايته.