السلام قصير الأمد ينبع من طبيعة الدنيا الاختبارية وطبيعة الإنسان القلقة. يتحقق السلام الدائم فقط بذكر الله والاتصال به والتوكل عليه.
هذا سؤال عميق وذو مغزى يواجهه الكثير من الناس طوال حياتهم. الشعور بتقلب السلام وعدم استقراره هو تجربة مشتركة، وقد تناول القرآن الكريم جذوره وحلوله بجمال وحكمة عالية. في الواقع، لا يكتفي القرآن ببيان المشكلة فحسب، بل يقدم خارطة طريق لتحقيق طمأنينة دائمة وعميقة تتجاوز تقلبات الحياة الدنيوية. أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل السلام في حياتنا قصير الأمد يكمن في طبيعة الوجود البشري وعبور هذه الدنيا. يصف القرآن الكريم الإنسان بأنه كائن خلق بميول متضادة. في سورة المعارج، الآيات 19-21، يقول الله تعالى: «إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا». تشير هذه الآيات إلى الطبيعة القلقة والجزعة للإنسان؛ الإنسان الذي يجزع عند مسه الشر، ويمسك الخير إذا مسه. هذه الطبيعة المتغيرة تجعل السلام الناتج عن نعمة مؤقتة أو إزالة مشكلة عابرة قصير الأجل، لأن الإنسان يطمع في المزيد أو يخشى فقدان ما لديه. السبب الثاني هو طبيعة الدنيا الفانية والمؤقتة. يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن الحياة الدنيا متاع قليل ولهو ولعب. في سورة الكهف، الآية 46، يقول الله تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا». تذكرنا هذه الآية بأن كل ما نكتسبه في الدنيا – الثروة، المكانة، الشهرة، أو حتى العلاقات الإنسانية – هو فانٍ ومؤقت. السلام الذي يُبنى على هذه الأمور غير المستقرة لا يمكن أن يدوم أبدًا. عندما يكون مصدر السلام متقلبًا ومعرضًا للزوال، فإن السلام نفسه حتمًا سيكون قصير الأمد. السبب الثالث، وربما الأهم، هو غاية الله من خلق هذه الدنيا والإنسان. يذكر القرآن صراحة أن الحياة الدنيا هي ميدان للاختبار والابتلاء. في سورة البقرة، الآية 155، نقرأ: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ». توضح هذه الآية أن الصعوبات والاضطرابات جزء لا يتجزأ من الحياة الدنيا. السلام المطلق والمتواصل لا يوجد في هذا العالم، لأن هذا العالم دار محن واختبار. لو كان السلام دائمًا، لما تحقق هدف الاختبار وتمييز الناس بعضهم عن بعض. لذا، فإن جزءًا من عدم استقرار السلام يعود إلى جوهر هذه الدنيا والهدف الإلهي من خلقها. لكن القرآن لا يكتفي بذكر أسباب هذا التقلب؛ بل يقدم حلولًا عملية وروحية لتحقيق سلام أعمق وأكثر ديمومة: 1. ذكر الله: الطريق الأهم والأكثر جوهرية هو ذكر الله. في سورة الرعد، الآية 28، يقول الله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ». توضح هذه الآية بجلاء أن المصدر الوحيد للسلام الحقيقي والدائم هو ذكر الله. وذكر الله لا يعني مجرد تكرار الكلمات، بل يشمل التفكر في آياته، والصلاة، والدعاء، وتلاوة القرآن، وكل عمل يربط الإنسان بحضور الله وقدرته اللامتناهية. عندما يربط الإنسان قلبه بخالق الوجود، تتلاشى مخاوف الفقدان، والقلق على المستقبل، واليأس من المشاكل، لأنه يعلم أن قوة عليا ورحيمة هي دائمًا مراقبة ومدبرة للأمور. هذا الاتصال يمنح الإنسان طمأنينة وسكينة، مما يمكنه من إيجاد مرساة ثابتة حتى في خضم عواصف الحياة. 2. الصبر والثبات: في مقابل طبيعة الإنسان الجزوع وغير الثابتة، يقدم القرآن الصبر كمفتاح للنجاة. والصبر ليس مجرد تحمل، بل هو نوع من المقاومة النشطة المليئة بالأمل في مواجهة الصعوبات. يساعد الصبر الإنسان على عدم الجزع أمام المحن، ويدرك أن كل صعوبة مؤقتة وسيأتي بعدها الفرج. الآية 155 من سورة البقرة، التي ذكرت سابقًا، تبشر الصابرين بعد ذكر أنواع الابتلاءات. هذا الصبر يجلب السلام لأن الإنسان، بتوكله على الله وأمله في الثواب الأخروي، يتحرر من القلق. 3. الصلاة والدعاء: الصلاة عماد الدين ومعراج المؤمن. هذا الاتصال المباشر بالله يمثل فرصة لتفريغ الهموم وتجديد القوة واكتساب السلام. يقول القرآن في سورة البقرة، الآية 153: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ». الصلاة ليست مجرد فريضة، بل هي مصدر غني بالسلام ومقوي للروح. الدعاء أيضًا أداة قوية للتواصل مع الخالق، تحرر الإنسان من الشعور بالوحدة والعجز. 4. التوكل على الله: عندما يدرك الإنسان أن جميع الأمور بيد الله وأنه خير المدبرين، يرتفع عنه عبء ثقيل. التوكل الحقيقي لا يعني التوقف عن السعي، بل يعني بعد بذل الجهد، تفويض النتائج إلى الله والثقة في حكمته. هذا التوكل يزيل القلق الناتج عن عدم القدرة على التحكم في الأوضاع ويحل محله سلام عميق. 5. القناعة وعدم التعلق بالدنيا: بما أن التعلق بالأمور الدنيوية هو مصدر للقلق، فإن القرآن ينصحنا بالقناعة بما لدينا وعدم التعلق بالدنيا. هذا لا يعني عدم السعي لتحسين الحياة، بل يعني عدم التعلق القلبي بها. عندما لا ترتبط سعادتنا وسلامنا بجمع المال أو المكانة أو أمور دنيوية أخرى، فإن فقدانها لا يؤثر على سلامنا. هذا نوع من التحرر الداخلي يؤدي إلى سلام دائم. في الختام، السلام قصير الأمد هو نتيجة طبيعية لنظرة سطحية للعالم والتعلق بمتغيراته. الإنسان، بسبب طبيعته القلقة وجوهر الدنيا الاختبارية، لا يمكنه أن يجد سلامًا دائمًا وخاليًا من المتاعب في هذا العالم. لكن القرآن يقدم حلولًا لتحقيق سلام أعمق وأكثر ديمومة؛ سلام ينبع من الداخل ومن خلال اتصال لا ينفصم بالله. هذا السلام يحفظ قلب المؤمن مطمئنًا حتى في خضم الصعوبات، ويمكّنه من النظر إلى الحياة بمنظور أسمى. لذلك، إذا كنا نسعى إلى سلام أكثر ديمومة، فيجب علينا أولاً وقبل كل شيء، تقوية علاقتنا بخالق الوجود، وبذكره تطمئن قلوبنا. هكذا يمكننا أن نتأثر بشكل أقل بتقلبات الحياة ونمتلك مرساة من السلام الداخلي في بحر الدنيا المضطرب.
في الأزمان الغابرة، في مدينة صاخبة، عاش رجل يدعى "العالم القلق". كان يسعى كل يوم وراء السلام، لكنه كلما وجده، سرعان ما فقده. ذات يوم، في حديقة خضراء بجانب نهر هادئ، رأى عصفورًا صغيرًا يلتقط حبة طعام بفرح ويطير. تساءل العالم بدهشة: "كيف لهذا العصفور، مع كل فقره، أن يمتلك هذا السلام، بينما أنا، مع كل ما أملك، سلامي عابر؟" فقال شيخ حكيم كان يجلس هناك: "يا فتى، السلام الحقيقي ليس في ممتلكاتك، بل في التحرر من الخوف من فقدانها. هذا العصفور لم يعلق قلبه بالحبّة؛ إنه يعلم أن رزقه سيأتيه من مكان آخر أيضًا. كل ما تحصل عليه بخوف الفقدان، فإن سلامه قصير الأمد. سَلِّم قلبك لمن بيده كل شيء، لتكتشف أن السلام الدائم ليس في الظاهر، بل في أعمق نقطة من وجودك، من خلال الاتصال به." لقد تغير العالم بسماع هذه الكلمات وأدرك أن السلام الحقيقي يكمن ليس في التجميع، بل في التوكل والقناعة. ومنذ ذلك الحين، على الرغم من أن الصعوبات والأفراح كانت تأتي وتذهب، إلا أن سلامًا داخليًا ودائمًا استقر في قلبه.