يؤكد القرآن الكريم على الأهمية العظيمة للنفع للآخرين، فهو علامة على الإيمان الصادق، وطريق لكسب رضا الله ومحبته، وعامل للنمو الفردي والاجتماعي. مساعدة الخلق هي تعبير عملي عن الشكر لنعم الله وتجلٍ للأخلاق الإسلامية في الحياة اليومية.
في التعاليم الواضحة والهادية للقرآن الكريم، يُعد أحد المحاور الأساسية والمؤكدة مرارًا وتكرارًا هو أهمية وفضيلة تقديم المساعدة والنفع للآخرين. لا يُعتبر هذا المفهوم مجرد توصية أخلاقية، بل هو ركن أساسي من أركان الإيمان والعبودية الحقيقية في الإسلام. السبب الرئيسي والأساسي لهذه التوصية الإلهية يكمن في حقيقة التوحيد وفهم مكانة الإنسان في الوجود. عندما ننظر إلى خلق الإنسان كخليفة لله على الأرض، ندرك أن هذا الدور ينطوي على مسؤولية عظيمة؛ مسؤولية لا تتحقق إلا بخدمة الخلق والنفع للمجتمع، فبدون ذلك، ستظل سعادة الإنسان الحقيقية ناقصة. هذا المنظور يخرج الإنسان من دائرة ضيقة من الأنانية والتركيز على الذات ويدفعه نحو آفاق أوسع من الإيثار والمسؤولية. يعتبر القرآن الكريم الإنسان كائنًا اجتماعيًا سعادته مرهونة بسعادة المجتمع الذي يعيش فيه. يدعو الله سبحانه وتعالى في آيات عديدة المؤمنين إلى التعاون على البر والتقوى، والإنفاق في سبيل الله، ومساعدة المحتاجين، وإقامة العدل. هذه الأوامر ليست فردية بطبيعتها فحسب، بل تشير مباشرة إلى بناء مجتمع صحي وحيوي. على سبيل المثال، في سورة المائدة، الآية 2، يقول تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"؛ أي: "وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان". هذه الآية تبين بوضوح أن أساس التفاعلات الاجتماعية بين المؤمنين يجب أن يكون على أساس الخير والتقوى. أن تكون نافعًا للآخرين هو في الواقع تجسيد لهذا التعاون والتآزر؛ لأن المجتمع القوي يعتمد على مشاركة وخدمة كل فرد من أفراده لبعضهم البعض. سبب آخر مهم لكوننا نافعين هو كسب رضا الله ومحبته. يذكر القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا أن الله يحب الذين يحسنون إلى عباده. في سورة البقرة، الآية 195، جاء: "وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"؛ أي: "وأحسنوا؛ إن الله يحب المحسنين". هذه المحبة الإلهية هي أسمى مكافأة يمكن أن يحققها العبد. عندما ينفع الإنسان الآخرين بأعماله الصالحة، فإنه في الحقيقة يسلك طريق كسب هذه المحبة الإلهية ويقرب نفسه من حضرته. هذا القرب يجلب سلامًا داخليًا ورضا روحيًا لا مثيل لهما لا يمكن مقارنتهما بأي متاع دنيوي. يمنح الله ثواب هذا الإحسان ليس فقط في الآخرة، بل في هذه الدنيا أيضًا، على شكل بركة في المال، وسلام في الحياة، ومحبة بين الناس. علاوة على ذلك، أن تكون نافعًا للآخرين هو انعكاس لإحسان الله وكرمه علينا. في سورة القصص، الآية 77، نقرأ: "وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ"؛ أي: "وأحسن كما أحسن الله إليك". هذه الآية تقدم مبدأً ذهبيًا: كما أننا غارقون في نعم الله ورحمته التي لا تحصى، يجب علينا أيضًا أن نظهر هذا السخاء والإحسان في تعاملاتنا مع عباده. حياتنا مليئة بالعطايا والفضل الإلهي؛ من الصحة والرزق إلى الهداية والفرص التي لا تعد ولا تحصى. تذكرنا هذه الآية بأن إحساننا للآخرين هو في الواقع شكر عملي على هذه النعم وانعكاس للصفات الإلهية في وجودنا. كل ذرة خير نقدمها للآخر، هي في الحقيقة عودة إلى مصدر الكمال والجمال. هذا الارتباط بين الإحسان الإلهي والإحسان البشري يدفع عجلة الخير والبركة في العالم. كما يشدد القرآن على مسؤولية الإنسان تجاه الفئات المستضعفة في المجتمع. اليتامى، المحتاجون، المساكين، عابرو السبيل، والجيران، كلهم فئات يوصى بالاعتناء بحقوقهم والإحسان إليهم في آيات عديدة. في سورة النساء، الآية 36، يوضح الله بالتفصيل: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا"؛ أي: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا؛ وبالوالدين إحسانًا، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم؛ إن الله لا يحب من كان مختالًا فخورًا". هذه الآية هي ميثاق أخلاقي كامل يوسع دائرة الإحسان والخير من الأسرة والأقارب إلى الغرباء وحتى من هم تحت رعايتنا. كل من هذه الفئات هي فرصة للنفع وكسب الأجر الإلهي؛ فرصة لإزالة صدأ الأنانية من القلب والوصول إلى أسمى مراتب الإنسانية. من منظور فردي، فإن النفع للآخرين يساهم بشكل كبير في النمو الروحي والمعنوي للفرد. عندما يتخلص الإنسان من الأنانية ويمد يد العون للآخرين، يتسع قلبه، ويشعر بسلام داخلي أكبر، ويصبح شعور الهدف والقيمة في حياته أكثر وضوحًا. هذا التزكية للنفس لها ثمار دنيوية وأخروية كثيرة. في الدنيا، تؤدي إلى البركة في الحياة، واحترام ومحبة الآخرين، وإقامة مجتمع آمن ومستقر. وفي الآخرة، فإن المكافآت الإلهية الموعودة لا حصر لها وخالدة، ولن يكون أحد أقرب إلى رحمة الله ممن كان عونًا للآخرين. باختصار، النفع للآخرين في القرآن الكريم ليس مجرد فضيلة، بل هو واجب إلهي، وعلامة على الإيمان الصادق، وطريق لكسب رضا الله والتعبير عن الشكر لنعمه، وعامل للنمو الفردي والتماسك الاجتماعي. هذا العمل هو أساس المجتمع الإسلامي والإنساني الذي يقوم على المحبة والتعاون والعدل، ويجلب السعادة في الدنيا والآخرة للجميع. لذا، فإن كل خطوة نخطوها نحو النفع للآخر، هي في الحقيقة خطوة على طريق الكمال والتقرب إلى حضرة الله تعالى وبناء عالم أفضل لأنفسنا وللأجيال القادمة.
يُروى أنه في زمن غابر، كان هناك ملك عادل وثري. ذات يوم، سأل وزيره الحكيم: "يا وزيري الداني، خزائننا مليئة بالذهب والجواهر، ورعايانا يعيشون في رغد. فهل يوجد في هذا الملك من يحتاج شيئًا ولا نعلم عنه؟" فأجاب الوزير باحترام: "أيها الملك الصالح، على الرغم من أن تدبيرك قد عمَّر البلاد وعدلك قد أظلَّها، إلا أن قلوب الناس لا تزال متعطشة للخير. بالأمس، رأيت في سوق المدينة شيخًا عجوزًا بثياب ممزقة ووجه جائع، ينظر بيدين ترتعشان إلى طفل يحمل تفاحة حمراء. كانت الدموع تترقرق في عينيه، لكنه لم يطلب شيئًا صونًا لكرامته." فارتجف قلب الملك وقال: "أيها الوزير، اسرع إليه وامنحه ليس فقط تفاحة، بل بستانًا من الفاكهة. وانشر الخير على نطاق واسع حتى لا يبقى قلب محرومًا منه." نفذ الوزير الأمر. وبعد وقت قصير، عاد الشيخ العجوز إلى الملك بوجه مشرق ودعاء من صميم قلبه. سأله الملك: "والآن وقد أصبحت غنيًا، ما هو شعورك؟" أجاب الشيخ: "أيها الملك، قبل هذا، كنت أفكر فقط في إشباع بطني. أما الآن، فكل لقمة آكلها تتذوق طعم الصدقة والخير. وكل فاكهة أقطفها من بستاني تذكرني بالجائعين الآخرين. الآن، ليست سعادتي في أن أكون شبعانًا بنفسي، بل في أن أتمكن من إشباع الآخرين من هذا الثراء." ففرح الملك بهذه الكلمات، وعلم أن العطاء لا يملأ يد المعطي فحسب، بل يروي روحه أيضًا، ويخلق متعة تدوم أكثر من متعة الأخذ.