يقدم القرآن الكريم علامات واضحة لتمييز الحق من الباطل من خلال التأكيد على التوحيد والعدل والعقلانية والنتائج النفعية والاتساق. يتوافق الحق دائمًا مع الفطرة الإنسانية ويؤدي إلى صلاح الإنسان وسعادته.
في القرآن الكريم، كتاب الهداية الإلهية، وردت علامات ومعايير عديدة بشكل صريح لتمييز الحق من الباطل، وتوجيه الإنسان نحو الحقيقة. هذه المعايير القرآنية لا تقدم مبادئ عامة فحسب، بل تتمتع بعمق واتساع يمكن أن تكون دليلاً للإنسان في جميع أبعاد حياته الفردية والاجتماعية. القرآن بمثابة نور يضيء الطريق وينقذ الإنسان من ظلمات الجهل والضلال. وبالنسبة للمؤمن، فإن معرفة هذه العلامات أمر حيوي للسير في الطريق الصحيح وتجنب فخاخ الشيطان والضلال. يدعو القرآن الكريم، بلغته الواضحة والبليغة، الإنسان مرارًا إلى التفكر والتعقل والتدبر في آيات الخلق وفي مصير الأمم السابقة، ليتمكن ببصيرة ووعي من تمييز الحق من الباطل واختيار طريق النجاة. إحدى أبرز علامات الحق في القرآن هي 'التوحيد' وعبادة الله الواحد الأحد. الحق دائمًا ما يكون مصحوبًا بعبادة الله وحده، والابتعاد عن أي شكل من أشكال الشرك أو اتخاذ شركاء له. أما الباطل، على النقيض، غالبًا ما يتجلى في الشرك وعبادة الأصنام أو عبادة غير الله. يؤكد القرآن مرارًا على هذا المبدأ بأنه لا معبود بحق إلا الله، وهذا هو أوضح فاصل بين الحق والباطل. كل فكر يدفع الإنسان نحو الشرك أو عبادة غير الله فهو باطل، وكل ما يدعو إلى وحدانية الله تعالى وعظمته فهو حق. هذا المبدأ لا ينطبق فقط على الجانب التعبدي، بل يسري ويطبق في جميع مجالات الحياة؛ بمعنى أن الاعتماد المطلق على غير الله أو تجاهل إرادته وقوى الدنيا الظاهرية في الحياة، يُعد نوعًا من الباطل يُبعد الإنسان عن طريق العبودية والحقيقة. هذا هو المحك الأول والأهم لتقييم أي اعتقاد أو عمل. المعيار الثاني الهام هو 'العدل' ومراعاة الإنصاف. الحق دائمًا ما يرتبط بالعدالة والمساواة وإحقاق حقوق المظلومين والابتعاد عن الظلم والجور. في المقابل، يُعرف الباطل بالظلم والتمييز والاعتداء على حقوق الآخرين. يؤكد القرآن الكريم مرارًا على إقامة العدل في المجتمع، واعتبره من أهداف بعثة الأنبياء. «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد: 25). أي قول أو فعل أو نظام يؤدي إلى الظلم والجور هو علامة من علامات الباطل، وكل ما يدعو إلى العدل والقسط والإحسان فهو في سبيل الحق. وهذا يشمل العدل في القضاء، في المعاملات، في العلاقات الأسرية، وحتى العدل في القول والفكر. فمن يعرف الحق لا يرضى بالظلم والجور، وسيسعى دائمًا لإرساء العدل ورفع الظلم. العلامة الثالثة هي 'العقلانية' والدعوة إلى التفكير والتدبر. يدعو القرآن الإنسان مرارًا إلى التفكر في خلق الله، وفي آياته، وفي مصير الأمم السابقة. الحق يتوافق مع العقل السليم والأدلة الواضحة، بينما الباطل غالبًا ما يستند إلى الخرافات، التقليد الأعمى، العواطف الزائلة، أو الحجج الواهية وغير المنطقية. يصف القرآن كل دعوة إلى الباطل بأنها لا أساس لها وتفتقر إلى الاستدلال، ويطالب أتباعه بالتمييز بين الحق والباطل بعين بصيرة وفكر مستيقظ. تدعو العديد من الآيات القرآنية الإنسان إلى التعقل بعبارات مثل: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ؟»، «أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟»، أو «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». هذا يعني أنه إذا كان شيء ما يخالف العقل والفطرة الإنسانية السليمة، فمن المحتمل أنه ليس حقًا ويجب الشك فيه. الحق يثبت نفسه من خلال البراهين العقلية والأدلة القاطعة، ويفتح الطريق للتساؤل وطلب العلم. المعيار الرابع هو 'النفع والإحسان' للإنسان والمجتمع. الحق دائمًا ما يؤدي إلى سعادة الإنسان ونجاحه وإصلاحه وخيره وصلاحه في الدنيا والآخرة. أما الباطل، فلا يثمر إلا الفساد والهلاك والشقاء والضرر. يذكر القرآن العديد من الأفعال الباطلة بنتائجها المدمرة، مثل الربا والكذب والغيبة والنفاق، وكلها تؤدي إلى الفساد في المجتمع وتهدد السلامة الفردية والاجتماعية. الهدف الأساسي للشريعة هو إقامة الصلاح ودفع الفساد. لذلك، إذا كان شيء ما يؤدي إلى الخير والصلاح العام للمجتمع والفرد ولا ينتج عنه فساد وهلاك، فهو علامة على حقيته. توجه التعاليم القرآنية الإنسان دائمًا نحو الخير والإحسان والتعاون لما فيه نفع، وتحذره من كل ما يؤدي إلى الهلاك والشر. العلامة الخامسة هي 'الثبات وعدم التناقض'. الحق له طبيعة ثابتة ومستقرة ولا يتعرض لتغيرات جوهرية أو تناقضات بمرور الزمن. يصف القرآن الكريم نفسه بأنه كتاب لا يوجد فيه أي تناقض، وهذا من دلائل مصدره الإلهي. «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» (النساء: 82). في المقابل، الباطل عادة ما يكون غير مستقر، متناقض، ويتغير مع تغير الزمان والظروف، ويفقد جوهره الأساسي. الحق صريح وواضح، بينما الباطل غالبًا ما يكون مصحوبًا بالتعقيد والغموض والخداع. وهذا الثبات والوضوح ظاهر أيضًا في المبادئ الأخلاقية والأحكام الإلهية، ويمنح الإنسان الثقة بأنه يستند إلى أساس متين لا يتغير. المعيار السادس هو 'الفطرة الإنسانية السليمة'. الحق يتوافق مع فطرة الإنسان وتقبله الروح البشرية، بينما الباطل يتعارض مع الفطرة ولا يتقبله القلب السليم. لقد خلق الله الإنسان بفطرة توحيدية تبحث عن الحق. قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): «كل مولود يولد على الفطرة [الإلهية النقية].» العديد من تعاليم الحق، وخاصة المبادئ الأخلاقية الأساسية مثل الصدق والأمانة والإحسان، متأصلة في كل إنسان، وكل قلب سليم يميل إليها. إذا كان شيء ما يتعارض بوضوح مع الضمير والفطرة السليمة، فيجب الشك في حقيقته، والبحث عن الحقيقة النقية التي تتناغم مع جوهر الإنسان. في الختام، من خلال تقديم هذه العلامات، مهد القرآن الكريم الطريق للإنسان لتمييز الحق من الباطل. يستطيع الإنسان، بالتدبر في الآيات الإلهية، واستخدام العقل، والاقتداء بسيرة الأنبياء، أن يجد نور الهداية في هذا الطريق الصعب ويتحرر من ظلمات الضلال. هذا التمييز ليس مجرد اختيار فكري، بل هو اختيار عملي يحدد مصير الإنسان في الدنيا والآخرة. لذلك، فإن تمييز الحق من الباطل مسؤولية عظيمة على كل مسلم، يجب أن يؤديها بوعي وبصيرة كاملة، وأن يلتمس دائمًا العون من الله تعالى لتنوير طريق الحق. هذه الآيات والمبادئ هي منارات ترشدنا، وسط الكم الهائل من المعلومات والعقائد المختلفة، إلى الوصول للحقيقة واتباع المسار الصحيح، وحماية أنفسنا من أي انحراف أو خطأ.
يُروى أن الشيخ سعدي سُئل في قديم الزمان: "ما هي علامة الحكيم وكيف يمكن تمييزه عن مدعي الباطل؟" فتأمل الشيخ قليلاً وقال: "الحكيم الحقيقي هو من إذا تكلم، كان كلامه كالماء الزلال يروي النفس العطشى، ويوجه القلوب نحو الصدق والصلاح. أما مدعي الباطل، فمهما كان لسانه عذبًا ومخادعًا، فإن كلامه كالسراب يقود العطشان إلى الضلال، ولا يجلب إلا القلق والاضطراب." وتابع: "في أحد الأيام، في إحدى المدن، ادعى رجل عظيمًا وجمع الناس حوله بكلام عذب ومظهر أنيق. وكان الجميع يثنون عليه. ولكن فقيرًا جلس في زاوية ولم يلتفت إليه. فسُئل الفقير: لماذا لا ترغب في الاستماع إلى كلام هذا الرجل؟ فقال الفقير: «لا أقول إن كلامه ليس جميلًا، ولكني لا أرى أثرًا من أفعاله. كلام الحق ينبع من نبع الحقيقة ويثمر العمل الصالح، أما كلام الباطل فهو مجرد ريح في الفم لا تنتج سوى الخداع والوعود الفارغة.» وبالفعل، بعد فترة، انكشف أمر ذلك الرجل، واتضح أنه لم يكن سوى دجال. وهكذا يمكن تمييز الحق من الباطل بنتائجه وآثاره.