لا يتعارض طلب النجاح المادي مع الزهد الحقيقي، شريطة أن تُكتسب الثروة بوسائل حلال، وأن يظل القلب غير متعلق بها، وأن تبقى الآخرة الهدف الأسمى. الزهد يعني عدم التعلق القلبي بالدنيا، لا تركها.
إن السؤال حول ما إذا كان طلب النجاح المادي يتعارض مع الزهد هو أحد المواضيع التي طالما نوقشت بين المسلمين، وقُدمت تفسيرات مختلفة له. للإجابة على هذا السؤال من منظور القرآن الكريم، لا بد أولاً من تقديم تعريف واضح ودقيق لكل من مفهومي «النجاح المادي» و«الزهد» ضمن إطار التعاليم الإسلامية. يشير النجاح المادي إلى اكتساب الثروة، ووسائل الراحة، والمكانة الاجتماعية، والتقدم في الأمور الدنيوية، والذي يتحقق من خلال الجهد والعمل المشروع. من ناحية أخرى، الزهد، وهي كلمة ليست قرآنية مباشرة ولكنها مفهوم متأصل بعمق في السنة النبوية والتعاليم الإسلامية، غالبًا ما يُفهم على أنه ابتعاد عن الدنيا وملذاتها، في حين أن هذا الفهم قد يكون ناقصًا أو حتى غير صحيح. في الحقيقة، الزهد الحقيقي في الإسلام يعني عدم التعلق القلبي بالدنيا وملذاتها، وليس بالضرورة التخلي عن نعم الدنيا. بعبارة أخرى، الزاهد ليس من لا يملك المال، بل هو من لا يسيطر المال عليه، وقلبه غير متعلق بالدنيا؛ بل يستخدمها كوسيلة لتحقيق أهداف إلهية وأبدية. بهذا التعريف، يمكننا أن ندرك أن طلب النجاح المادي، طالما أنه يتم مع مراعاة الحلال والحرام، وبنية حسنة، ودون نسيان الآخرة والواجبات الإلهية، لا يتعارض مع الزهد فحسب، بل يمكن أن يكون مكملاً له أيضًا. يشجع القرآن الكريم صراحة على كسب الرزق الحلال والاجتهاد في المعيشة. يدعو الله الإنسان في آيات عديدة إلى العمل والاجتهاد والاستفادة من النعم الإلهية. على سبيل المثال، في سورة الجمعة الآية 10 يقول: «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»؛ أي «فإذا أديت الصلاة، فتفرقوا في الأرض، واطلبوا رزق الله، واذكروا الله كثيرًا؛ لعلكم تفلحون.» هذه الآية توضح جليًا أنه بعد أداء العبادات، يجب على المؤمنين الانخراط في النشاط لكسب رزقهم. علاوة على ذلك، في سورة الملك الآية 15 نقرأ: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»؛ أي «هو الذي جعل لكم الأرض سهلة مذللة ليمكنكم السير في نواحيها؛ فاسعوا في مناكبها، وكلوا من رزقه الذي أخرجه لكم، وإليه وحده النشور من قبوركم للحساب والجزاء.» هذه الآيات وما شابهها لا تسمح فقط بطلب النجاح المادي، بل تقدمه جزءًا من الخطة الإلهية لتنمية الأرض والاستفادة من خيراتها. العديد من الأنبياء والعظماء في التاريخ الإسلامي، بمن فيهم النبي داود (عليه السلام) الذي كان ملكًا ثريًا وكان يأكل من عمل يده، والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يعمل بالتجارة، هم أمثلة واضحة لأفراد كانوا ينخرطون في الأمور الدنيوية وكانوا في قمة الزهد والتقوى. الثروة والنجاح المادي، إذا استُخدما في سبيل الله ولخدمة الخلق، يمكن أن يكونا وسيلة للتقرب إلى الله وكسب رضاه. مساعدة المحتاجين، بناء المساجد والمراكز الخيرية، دعم العلم والمعرفة، وتلبية احتياجات الأسرة، كلها أمثلة على الاستخدام الصحيح للثروة التي أكد عليها الإسلام. من ناحية أخرى، الزهد الحقيقي يعني عدم الرغبة في الدنيا وعبودية الدنيا، وليس عدم الرغبة في الدنيا بالمعنى المطلق. الزاهد ليس من لا يملك شيئًا، بل هو من إذا امتلك، فإن قلبه لا يتعلق به، وهو مستعد دائمًا لإنفاق ما يملك في سبيل الله. تتعدد آيات القرآن الكريم في ذم التعلق المفرط بمظاهر الدنيا. على سبيل المثال، في سورة الحديد الآية 20 يقول الله: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۚ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ»؛ أي «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب وغرور وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل مطر أعجب الزرَّاع نباته ثم يهيج فتراه مصفرًا ثم يصير حطامًا؛ وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان؛ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.» هذه الآية والآيات المشابهة لها، لا تهدف إلى ذم أصل امتلاك المال والأولاد، بل تهدف إلى التحذير من التعلق المفرط بهذه الأمور ونسيان الهدف الرئيسي للخلق والحياة الأخروية. الزاهد الحقيقي هو من يعلم أن الدنيا فانية ومؤقتة، وأن الآخرة باقية وخالدة. لذا، فهو يعطي القيمة الحقيقية للآخرة ويعتبر الدنيا وسيلة للوصول إليها. نقطة الالتقاء والتوازن بين هذين المفهومين تُعبر عنها بجمال في سورة القصص، الآية 77: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»؛ أي «واطلب بالذي أعطاك الله من المال والممتلكات ثواب الآخرة بالإنفاق في سبيل الله؛ ولا تترك نصيبك من الدنيا؛ وأحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك؛ ولا تطلب الإفساد في الأرض؛ إن الله لا يحب المفسدين.» هذه الآية هي مفتاح فهم العلاقة بين الزهد والنجاح المادي. الله يقول بوضوح إنه يجب السعي للآخرة وعدم نسيان نصيب المرء من الدنيا. هذا يعني أن النجاح المادي، طالما أنه لا يؤدي إلى الفساد ولا يضر بمكانة الآخرة السامية، ليس مجازًا فحسب بل هو مرغوب فيه. الزهد لا يعني عدم امتلاك شيء، بل يعني «عدم التعلق»؛ أي إذا اكتسبت مالًا، فلا تجعل قلبك أسيرًا له، واجعله وسيلة للوصول إلى الكمال والرضا الإلهي. وبالتالي، يمكن للمؤمن أن يكون ناجحًا في الأمور الدنيوية ويستفيد من النعم الإلهية، وفي الوقت نفسه يكون له قلب خالٍ وحر من التعلقات الدنيوية، وأن يجعل الآخرة دائمًا هدفه الرئيسي. هذا التوازن هو «الصراط المستقيم» وطريق الاعتدال الذي يوصي به الإسلام، ويسمح للمسلمين بالعمل على أفضل وجه في كلا بُعدي الحياة الدنيا والآخرة، وتحقيق الفلاح. الثروة بحد ذاتها ليست جيدة ولا سيئة، بل النية وطريقة استخدامها هي التي تمنحها قيمة روحية. في الختام، يمكن القول إن طلب النجاح المادي لا يتعارض مع الزهد، بشرط أن يكون هذا الطلب: 1) من خلال سبل مشروعة وحلالة؛ 2) تكون نية الإنسان فيه نقية وإلهية (على سبيل المثال، لتلبية احتياجات الأسرة، مساعدة الآخرين، أو تقوية المجتمع الإسلامي)؛ 3) ألا يؤدي إلى نسيان الواجبات الإلهية والأخروية؛ 4) ألا يؤدي إلى الغرور والتكبر والغفلة عن ذكر الله؛ و5) أن يتم دائمًا أداء حق الآخرين منه (مثل الزكاة والصدقة). الزهد الحقيقي يكمن في التحكم بالنفس والإدارة السليمة للممتلكات، وليس في الفقر أو الانسحاب من المجتمع. يمكن للفرد الزاهد أن يكون ثريًا، ولكن ثروته لا تلهيه أبدًا عن ذكر الله والآخرة. فهو يرى الثروة وسيلة لتحقيق رضوان الله وليس غاية نهائية. وبالتالي، الأهم هو «قلب» الإنسان و«توجهه»، وليس مقدار ممتلكاته.
يُروى أن رجلاً ثريًا معجبًا بنفسه، يرتدي أفخر الثياب ومحاطًا بالخدم والحشم، مر ذات يوم بدرويش كان يجلس قانعًا في زاوية، غير متعلق بأمور الدنيا. سأل الرجل الثري الدرويش بغرور: «لماذا لا تعمل لتجمع ثروة وتتخلص من هذا الفقر؟» أجاب الدرويش بابتسامة هادئة: «أنا أعتبر نفسي أغنى منك. فأنت تسعى دائمًا لزيادة ثروتك، وخوف اللصوص وطمع الآخرين قد سلب النوم من عينيك. أما أنا، فقنوع بما أملك، وأمتلك قلبًا حرًا لا يخاف. أنت عبد لمالك، وأنا سيد نفسي.» تذكرنا هذه القصة أن الزهد الحقيقي يكمن في استغناء القلب، لا في خلو اليد؛ وأن الثروة الحقيقية تكمن في القناعة، لا في وفرة الممتلكات.