نعم، يؤكد القرآن الكريم بشدة على إصلاح المجتمع، بما في ذلك إقامة العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورعاية شؤون المحتاجين. إصلاح المجتمع واجب شامل وهدف أساسي للبعثات النبوية.
لقد طرحت سؤالاً غاية في الأهمية والعمق، سؤالاً يلامس جوهر تعاليم القرآن الكريم والهدف الأسمى لرسالة الأنبياء. والإجابة القاطعة هي: نعم، القرآن الكريم لا يأمر بإصلاح المجتمع فحسب، بل يجعله أحد الأهداف الأساسية لبعثة الأنبياء ورسالة الإسلام. الإسلام ليس مجرد دين فردي يعنى بعلاقة الإنسان بربه، بل هو نظام إلهي شامل يرى سعادة الفرد والمجتمع مترابطة لا تنفصل. وإصلاح المجتمع مفهوم واسع جداً يشمل الإصلاحات الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وقد تناولها القرآن بأبعادها المختلفة. من أهم وأصرح توجيهات القرآن الكريم في مجال إصلاح المجتمع هو مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". هذا المبدأ يمثل واجباً جامعاً ومستمراً على كل فرد من المسلمين، وخاصة على المؤسسات الاجتماعية والحكومة الإسلامية. ففي سورة آل عمران، الآية 104، يقول الله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". هذه الآية تبين أن وجود أمة أو جماعة تحمل على عاتقها رسالة الهداية والرقابة الاجتماعية هو من علامات فلاح المجتمع. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتجاوز مجرد التوصية الأخلاقية البسيطة؛ بل هو آلية حيوية للحفاظ على صحة المجتمع وحيويته. هذا الواجب يبدأ من الإرشاد والنصيحة ويمتد إلى محاربة الظلم والفساد على المستويات الكبرى في المجتمع. يؤكد القرآن مراراً وتكراراً على أهمية إقامة العدل والقسط في المجتمع. العدل هو أساس الحكم وصحة المجتمع، وبدونه، لن يرى أي مجتمع السلام والتقدم. ففي سورة النساء، الآية 135، جاء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا". هذه الآية توضح أن العدل يجب أن يُراعى حتى ضد الذات، أو الوالدين، أو الأقارب، ولا يجب أن يخرج أحد، سواء كان غنياً أو فقيراً، عن دائرة العدالة. هذا العدل يشمل العدل القضائي، والاقتصادي، والاجتماعي، وحتى في العلاقات الفردية. بالإضافة إلى ذلك، يولي القرآن اهتماماً خاصاً للمسائل الاقتصادية والاجتماعية لإصلاح المجتمع. فالأوامر مثل الزكاة، والصدقات، والإنفاق، والنهي عن الربا، ومحاربة الاحتكار والإسراف، كلها تهدف إلى إقامة مجتمع متوازن وعادل، خالٍ من الفقر المدقع والفروق الطبقية الشديدة. فالهدف هو تداول الثروة بين جميع شرائح المجتمع لكي لا تكون دولة بين الأغنياء فقط (سورة الحشر، الآية 7). كما يؤكد القرآن بشكل كبير على أهمية حقوق اليتامى والفقراء والمساكين والمحتاجين، ويعتبر رعايتهم من أهم واجبات المؤمنين (سورة البقرة، الآية 177). أما أحد الجوانب الأخرى للإصلاح الاجتماعي في القرآن فهو الدعوة إلى الوحدة والأخوة. فالإسلام يحارب كل أنواع التفرقة، والعنصرية، والقبلية، والتعصبات الجاهلية، ويعتبر جميع البشر إخوة ومتساوين بسبب المشتركات الإنسانية والإيمانية. ففي سورة الحجرات، الآية 10، نقرأ: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". تشير هذه الآية صراحة إلى واجب المسلمين في إصلاح ذات البين وإقامة السلام والهدوء في المجتمع. هذه الوحدة والتضامن الاجتماعي هما الركيزتان الأساسيتان لمجتمع قوي وصامد في وجه الفساد والهلاك. كما يؤكد القرآن على ضرورة تربية أفراد صالحين وملتزمين بمسؤولياتهم الاجتماعية. فإصلاح المجتمع يبدأ بإصلاح الفرد؛ فالشخص الذي يلتزم بالأخلاق الإلهية يمكن أن يكون فعالاً في إصلاح ما حوله. وقد دعا الأنبياء الإلهيون الأفراد أولاً إلى الإيمان وتزكية النفس، ثم قاموا، بمساعدة هؤلاء الأفراد، بإصلاح الهياكل الاجتماعية. أخيراً، يولي القرآن اهتماماً خاصاً بمسؤولية الحكام والقادة، ويعتبر واجبهم إقامة الدين والعدل وحماية حقوق الناس. فالتقصير من جانب الحكام في هذا الصدد يؤدي إلى الفساد والخراب في المجتمع. بناءً على ذلك، يقدم القرآن خارطة طريق كاملة وشاملة لبناء مجتمع مثالي قائم على العدل والأخلاق والأخوة وعبادة الله، ويعتبر إصلاح المجتمع واجباً مستمراً وحيوياً لكل مسلم وللأمة الإسلامية بأسرها.
يروى أن سعدي الشيرازي كان يوماً يجلس في بستانه (الكلستان) ويتحدث مع مجموعة من الرفاق. فسأل أحدهم: "يا شيخ، كيف يمكن بناء مجتمع يسعد فيه الجميع؟" ابتسم سعدي وقال: "الحكاية أن في مدينة كان هناك ملك ظالم ومتجبر، قد أعرض عن العدل والإنصاف. ضاق الناس ذرعاً بظلمه، وكانت المدينة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. في تلك المدينة، كان هناك رجل عالم وعارف يحزن لرؤية حال الناس. في يوم من الأيام، رأى الملك يستمتع في حديقته، غافلاً عن حال رعيته. اقترب العالم باحترام وقال: 'أيها الملك، سمعت أنك تنوي بناء صرح جديد. أتعلم أن أساس كل صرح يجب أن يكون متيناً وثابتاً ليدوم؟' فقال الملك: 'بالطبع، سأستخدم أفضل المواد.' فقال العالم: 'إن أساس حكمك ومُلكك ليس استثناءً من هذه القاعدة. فأساسه العدل والإنقاد. إذا ساد العدل بين الناس وحصل كل فرد على حقه، فستكون قلوب الرعية معك ويدوم ملكك؛ أما إذا كان الأساس مبنياً على الظلم، مهما كان مظهره فخماً، فلن يمضي وقت طويل حتى ينهار.' تفكر الملك في هذه الكلمات وبدأ شيئاً فشيئاً في إصلاح أموره وأمور رعيته. بدأت المدينة تزدهر وعاش الناس في سلام وهدوء تحت ظل العدل والإنصاف. ثم أضاف سعدي: 'فاعلموا أن إصلاح المجتمع يبدأ بإصلاح قلب الحاكم ومراعاة العدل والإنصاف، وهذا واجب الجميع أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لبناء مجتمع صالح'.