يؤكد القرآن بشدة على السخاء المالي، معتبرًا إياه وسيلة لتطهير الروح والمال، وزيادة البركة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. فالإنفاق في سبيل الله يجلب مكافآت روحية عظيمة ويساهم في تعزيز التكافل والرفاهية في المجتمع.
يؤكد القرآن الكريم بشكل قاطع وعميق على السخاء المالي، ويجعله حجر الزاوية في الإيمان والممارسة الإسلامية. فالعطاء من الثروة ليس مجرد اقتراح، بل هو واجب أساسي، ووسيلة للتطهير، وطريق للارتقاء الروحي. يتخلل هذا التأكيد العديد من السور والآيات، مسلطًا الضوء على الفوائد الفردية والاجتماعية للسخاء. في جوهره، يعرف السخاء المالي في الإسلام بمصطلحات مختلفة، لكل منها دلالاته الخاصة: "الإنفاق" (الإنفاق في سبيل الله)، و"الصدقة" (الصدقة التطوعية)، و"الزكاة" (الصدقة الواجبة، وهي ركن من أركان الإسلام). يعلم القرآن أن كل الثروات تعود في النهاية إلى الله، والبشر مجرد أمناء عليها. ولذلك، فإن إنفاق جزء من هذه الثروة في سبيل الله يُنظر إليه على أنه رد أمانة إلى صاحبها الشرعي وإظهار للشكر على نعم الله. هذه العقلية تحول السخاء من عبء إلى عمل عبادي وتعبير بهيج عن الإيمان. تتكرر الإشارة إلى المكافآت الروحية للسخاء المالي باستمرار. فالقرآن يعد بعوائد ضخمة، وغالبًا ما تكون مضاعفة، لأولئك الذين ينفقون في سبيل الله. على سبيل المثال، يوضح سورة البقرة، الآية 261، هذا المفهوم بوضوح: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم). هذه الآية استعارة قوية، تؤكد للمؤمنين أن مساهماتهم الصادقة لا تقل بل تزداد أضعافا مضاعفة بفضل الله. إنها تشجع على عقلية الاستثمار في الآخرة، حيث كل عمل صالح، وخاصة العطاء المالي، يؤتي ثماره بوفرة. هذه المكافأة الروحية لا تقتصر على تجميع البركات في الآخرة فحسب؛ بل تجلب أيضًا راحة البال، والرضا، والشعور بالهدف في هذه الحياة. عندما يعطي الأفراد بسخاء، فإنهم يفصلون أنفسهم عن الطبيعة الزائلة للممتلكات الدنيوية ويتصلون بهدف أسمى أبدي، مما يعزز شعورًا عميقًا بالهدوء والرضا الداخلي. هذا العطاء لا يطهر المال فحسب، بل يطهر الروح أيضًا من الشح والطمع، ويدفع الفرد نحو الكمال الروحي. بالإضافة إلى الجزاء الروحي، يسلط القرآن الضوء على القوة التحويلية للسخاء على شخصية المعطي. فالعطاء ينقي ثروة الإنسان وروحه من الجشع والأنانية والمادية. إنه يعزز التواضع والرحمة والاتصال الأعمق بالبشرية. سورة التوبة، الآية 103، توجّه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرْهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم). هذا التطهير ليس ماديًا فحسب، بتطهير الثروة من أي مكاسب غير مشروعة أو شبهات، بل هو روحي أيضًا، ينقي القلب من التعلق بالدنيا ويعزز التركيز على الآخرة. إنه يساعد الأفراد على التغلب على الميل البشري الطبيعي إلى التكديس وبدلاً من ذلك ينمي روح المشاركة والرفاهية الجماعية. يضمن فعل التطهير هذا أن تكون الثروة المتبقية مع الفرد مباركة وتساهم في نموه الروحي الشامل، مما يجعله أكثر صلاحًا وتقوى. لتأكيد القرآن على السخاء آثار مجتمعية عميقة أيضًا. فهو يهدف إلى إقامة مجتمع عادل ومنصف يتم فيه تلبية احتياجات الفقراء والمحتاجين. الزكاة، كضريبة سنوية إلزامية على الثروة المتراكمة، مصممة صراحة لإعادة توزيع الثروة، والحد من الفقر، ومنع تركيزها في أيدي قلة. سورة الحشر، الآية 7، تنص على أن الثروة لا ينبغي أن "تكون دولة بين الأغنياء منكم". هذه الآية تؤكد على جانب العدالة الاقتصادية للمبادئ المالية الإسلامية، مما يضمن تداول الموارد في جميع أنحاء المجتمع، ليستفيد منها جميع أفراده، وخاصة المحتاجون. الصدقة التطوعية تكمل الزكاة بتشجيع الأعمال المستمرة من اللطف والدعم، وتعزيز شعور قوي بالانتماء للمجتمع والمسؤولية المتبادلة. يحث القرآن مرارًا وتكرارًا المؤمنين على رعاية المحتاجين والأيتام والمسافرين والمنكوبين، مؤطرًا هذه الرعاية كجزء لا يتجزأ من الإيمان. إنه يعزز التكافل الاجتماعي والتعاطف، ويخلق مجتمعًا يدعم فيه الأعضاء بعضهم البعض، ويسد الفجوات بين الأغنياء والفقراء، ويضمن عدم تخلف أحد. هذه المسؤولية الجماعية تقوي الروابط الاجتماعية وتقلل من الاضطرابات الاجتماعية، مما يساهم في مجتمع مستقر ومتناغم. بالإضافة إلى ذلك، يحذر القرآن من مخاطر الشح وتكديس الثروة. فهو يدين أولئك الذين يجمعون الثروة دون إنفاقها في سبيل الله، ويصف مصيرهم النهائي بالندم والعقاب. تعمل هذه الآيات كرادع قوي ضد الجشع وتشجع على اتباع نهج متوازن للثروة، حيث يُنظر إليها كوسيلة لتحقيق الخير في هذه الحياة والآخرة، وليس غاية في حد ذاتها. يعلّم القرآن أن الازدهار الحقيقي ليس مجرد تجميع الثروات، بل هو استخدامها بحكمة وسخاء لصالح الفرد وعائلته والمجتمع ككل. تضمن هذه النظرة المتوازنة أن الممتلكات المادية لا تصبح أصنامًا بل تظل أدوات للحياة الصالحة. هذا التأكيد على العطاء هو اختبار مستمر للإيمان، يظهر الإخلاص والثقة في رزق الله. إنه تذكير بأنه في حين يتم تشجيع السعي لكسب الرزق، يجب ألا يطغى التعلق بالثروة أبدًا على إخلاص المرء لله ورحمته تجاه إخوانه من البشر. وهكذا، فإن السخاء المالي ليس مجرد عمل خير، بل هو ركيزة أساسية للأخلاق الإسلامية، حيث ينمي التقوى الفردية والعدالة الاجتماعية على حد سواء. يعكس التوجيه القرآني الشامل حول هذا الموضوع أهميته القصوى في بناء فرد صالح ومجتمع عادل.
في قديم الزمان، عاش تاجر في شيراز اسمه عبد الله، كان معروفًا بكرمه وطيب أخلاقه. كلما كسب مالًا كثيرًا من تجارته، خصص جزءًا كبيرًا منه للفقراء والمحتاجين، قائلًا: "هذا المال أمانة من الله، ومن يكون أمينًا جيدًا، فإن الله يزيد في رزقه." أحبه الناس وظهرت البركة في عمله. ذات يوم، تعرضت سفنه في البحر لعاصفة شديدة. توكل عبد الله على الله بكل جوارحه، وتذكر المساعدات التي قدمها لعباد الله. هدأت العاصفة وعادت سفنه بسلام، بينما غرقت سفن التجار الآخرين. شكر عبد الله الله تعالى واستمر في رعاية المحتاجين بجد أكبر. قال له معلمه، الذي كان أحد تلاميذ سعدي السابقين: "يا عبد الله! كرمك لم يطهر مالك فحسب، بل أنقذ حياتك وسفنك من الأذى. فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا يترك دعاء المظلومين دون إجابة." وهكذا، ظل عبد الله حتى نهاية حياته مثالًا للآية الكريمة التي تعتبر الإنفاق وسيلة للبركة والراحة.