هل يؤيد القرآن مفهوم التقدم المادي؟

يؤيد القرآن التقدم المادي، لا كغاية نهائية، بل كوسيلة لعمارة الأرض وتحسين الحياة ضمن إطار أخلاقي وروحي، مع التأكيد على التوازن بين الدنيا والآخرة والابتعاد عن الفساد والإسراف.

إجابة القرآن

هل يؤيد القرآن مفهوم التقدم المادي؟

القرآن الكريم، كتاب الهداية الإلهية، وإن لم يستخدم صراحةً مصطلح "التقدم المادي" بالمعنى الحديث، إلا أنه يتضمن في جوهر تعاليمه مبادئ تدل بوضوح على أهمية الجهد، وعمارة الأرض، والاستغلال السليم للموارد، وتحسين ظروف حياة الإنسان في هذه الدنيا. في الحقيقة، القرآن لا يسمح للبشر بالسعي وراء الرفاه المادي فحسب، بل يشجع عليه في كثير من الحالات، ولكن ضمن إطار أخلاقي وروحي يضمن عدم نسيان الهدف الأسمى، وهو الفلاح في الآخرة. هذا النهج المتوازن هو المفتاح لفهم رؤية القرآن للتقدم المادي. من أهم المفاهيم القرآنية التي تؤسس لرؤيته تجاه التقدم المادي هي مسؤولية الإنسان كـ "خليفة" لله في الأرض. ففي سورة البقرة، الآية 30، يقول الله تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". هذا المنصب كخليفة يضع مسؤولية عظيمة على عاتق الإنسان لعمارة الأرض، واستغلال مواردها، والحفاظ عليها للأجيال القادمة. فمفهوم عمارة الأرض ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع، فعلى سبيل المثال في سورة هود، الآية 61 يقول تعالى: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا". هذه الآية تبين بوضوح أن الله خلقنا من الأرض وعهد إلينا بمهمة إعمارها. هذا "الاستعمار" يعني السكن والبناء والزراعة والاستغلال البناء للأرض، وهو ما يشكل الأسس الرئيسية للتقدم المادي. لذا، فإن السعي لبناء مدن أفضل، وإنشاء بنى تحتية مناسبة، وتطوير تقنيات تجعل حياة الإنسان أسهل وأكثر كفاءة، ليس مسموحًا به فحسب، بل يندرج ضمن هذه المسؤولية الإلهية. كما يؤكد القرآن على مفهوم "تسخير" الطبيعة للإنسان. فآيات عديدة توضح أن الله سخر للإنسان كل ما في الكون، بما في ذلك السماوات والأرض والشمس والقمر والبحار وما فيها. على سبيل المثال، في سورة النحل، الآية 14 نقرأ: "وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". هذه الآية تشجع بوضوح على استخدام البحر لصيد الأسماك، واستخراج المجوهرات، والإبحار للتجارة وكسب الرزق. هذا التسخير يعني الاستخدام الذكي والهادف للموارد الطبيعية، وهو ما يتطلب البحث والابتكار وتطوير المعرفة والتكنولوجيا. وهذا بحد ذاته تعريف قرآني واضح للتقدم المادي الذي لا يُعتبر مسموحًا به فحسب، بل يُقدم كنعمة إلهية وأساس للشكر. وفي سورة الملك، الآية 15، جاء أيضًا: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ". هذه الآية أيضًا تأمر الإنسان بالسير في مناكب الأرض، والأكل من رزق الله، وهو ما يشير إلى العمل والتجارة والسفر، والاستفادة من إمكانيات الأرض. ومع ذلك، يؤكد القرآن دائمًا على ضرورة الحفاظ على التوازن بين الدنيا والآخرة. فالتقدم المادي لا ينبغي أن يكون الهدف النهائي للحياة أبدًا، بل يجب أن يكون وسيلة لتحقيق أهداف روحية وأخلاقية أسمى. ففي سورة القصص، الآية 77، يوضح القرآن هذا التوازن بشكل جميل: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ". هذه الآية تبين بوضوح أنه من خلال ما أعطاكم الله، اطلبوا الدار الآخرة، ولكن لا تنسوا حظكم من الدنيا، وأحسنوا كما أحسن الله إليكم، ولا تسعوا في الأرض فسادًا. هذا "النصيب من الدنيا" يشمل الرفاهية، واللذات الحلال، والتقدم المادي، وهو ليس مسموحًا به فحسب، بل ضروري ليتمكن الإنسان من العيش بكرامة ومساعدة الآخرين. لكن هذا النصيب يجب ألا يؤدي إلى الغفلة عن الآخرة أو إلى الطغيان والفساد. ويحذر القرآن بشدة من الإفراط في المادية، والجشع والطمع، وتكديس الثروة دون مراعاة حقوق الآخرين، والإسراف والتبذير. فجمع الثروة الذي يؤدي إلى الظلم أو الاستغلال أو نسيان الفقراء، هو أمر مذموم في القرآن. آيات مثل سورة التوبة، الآية 34، التي تلوم جامعي الثروة، أو سورة الهمزة، التي تتوعّد كل همزة لمزة الذي يجمع مالاً ويعدّده، تدل على الخطوط الحمراء في الإسلام فيما يتعلق بالتقدم المادي. يجب أن يقوم هذا التقدم على العدل والإحسان والمسؤولية الاجتماعية. فالزكاة والصدقة والإنفاق في سبيل الله ليست واجبات شرعية فحسب، بل هي أدوات لتوزيع الثروة ومنع تركزها في أيدي قلة، مما يساهم بدوره في استدامة التقدم الاجتماعي. بناءً عليه، فإن القرآن يؤيد التقدم المادي، شريطة أن يكون هذا التقدم، بدلاً من أن يبعد الإنسان عن الهدف الأساسي لخلقه، وسيلة لتحقيق السعادة الحقيقية الشاملة، التي تشمل الدنيا والآخرة معًا.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يروى في گلستان سعدي أن ملكًا عادلاً، ذات يوم، ذهب مع وزيره للتجول في حديقة مثمرة. وهناك، رأوا بستانيًا يعمل بجد واجتهاد، وعرق يتصبب من جبينه، يحرث الأرض ويزرع الشتلات الصغيرة. الملك، الذي أعجب بعمله الشاق وهمته العالية، سأله بابتسامة لطيفة: "يا أيها الرجل المجتهد، بكل هذا الجهد المتواصل، ماذا تأمل أن تحصل عليه من هذه الأرض؟" فأجاب البستاني باحترام وصدق: "يا أيها الملك العظيم، أنا أستغل ما أنعم الله به عليَّ من بركاته التي لا تحصى، من الأرض والماء وضوء الشمس، وبجهودي وعمل يدي، أثمرها. ربما أنا نفسي لن آكل الثمار الحلوة لهذه الأشجار، لكنني متأكد أن الآخرين سيستفيدون منها. هذا الجهد مني هو لكسب رزق حلال لي ولأسرتي، وهو أيضًا لعمارة هذه الأرض، حتى ينتفع منها الجميع." التفت الملك إلى وزيره، وبنظرة ذات مغزى، قال: "انظر! هذا هو المعنى الحقيقي للعمارة والاستغلال الصحيح للنعم. فمن يعمل بجدية ونية حسنة ليعمر الأرض، يكون بذلك قد عمر دنياه وحاز على رضا الله وثوابه." هذه الحكاية الجميلة تظهر أن التقدم المادي، إذا اقترن بالنية الصادقة والجهد المشروع والنظر إلى ازدهار المجتمع، فإنه ليس مذمومًا فحسب، بل هو مؤيد ومشجع، ويؤدي إلى خير وبركة يستفيد منها الجميع.

الأسئلة ذات الصلة