بينما لا يذكر القرآن صراحة "أزمة المناخ"، فإنه يقدم إطارًا أخلاقيًا شاملاً للإشراف البيئي، مؤكدًا على خلافة الإنسان، والتوازن الإلهي في الطبيعة (الميزان)، ونهي الفساد والإسراف، وتشجيع الشكر على نعم الله. توجهنا هذه التعاليم للتفاعل مع الأرض بمسؤولية واعتدال واحترام.
هل للقرآن الكريم، كتاب الهداية الإلهية، رأي في القضايا الحيوية والمعاصرة مثل أزمة المناخ والحفاظ على البيئة؟ الإجابة على هذا السؤال، على الرغم من أنها قد لا تكون مباشرة وباستخدام المصطلحات الحديثة، إلا أن البحث العميق في آياته النورانية يكشف بوضوح أن القرآن يقدم إطارًا أخلاقيًا وعمليًا قويًا وشاملًا لتفاعل الإنسان مع الطبيعة والحفاظ على البيئة. في الواقع، إن أزمة المناخ والتدهور البيئي هما نتاج عدم الالتزام بالمبادئ والتعاليم التي وضعها القرآن الكريم منذ قرون لضمان سعادة البشرية واستدامة الحياة على الأرض. أحد المفاهيم القرآنية المحورية في هذا الصدد هو "الخلافة". في سورة البقرة، الآية 30، يقول الله تعالى بوضوح: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). تحدد هذه الآية المسؤولية الأساسية للإنسان تجاه الأرض. الإنسان ليس المالك المطلق للأرض، بل هو خليفة ووصي من الله عليها. تعني هذه الخلافة الاستخدام المسؤول، والرعاية، والحفاظ على التوازن الطبيعي. فالخليفة مكلف بحماية ما أوكل إليه بأفضل طريقة ممكنة، والحفاظ عليه سليمًا ومزدهرًا للأجيال القادمة. يتعارض هذا المنظور تمامًا مع النهج الاستغلالي والمدمر الذي أدى إلى الأزمات البيئية اليوم. فالبشر بصفتهم خلفاء، يجب أن يكونوا حماة ومطورين، لا مدمرين. ويشمل هذا المفهوم ضمنيًا الأجيال القادمة؛ لأن واجب الخليفة لا يقتصر على الحاضر، بل يمتد إلى استدامة وبقاء الحياة عبر الزمن. المبدأ الهام الآخر هو مفهوم "الميزان" أو التوازن. في سورة الرحمن، الآيات 7 إلى 9، يقول الله تعالى: "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)" (والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان). لا تشير هذه الآيات إلى العدالة الاجتماعية فحسب، بل تشير أيضًا إلى العدالة الكونية والحفاظ على التوازن في الخلق كله. لقد خُلقت الطبيعة بنظام دقيق وتوازن مدهش؛ من دورة الماء والمناخ إلى الأنظمة البيئية المعقدة. وأي تدخل بشري مفرط وغير منظم يعطل هذا التوازن، ويؤدي إلى "طغيان" في الموازن الإلهي. وأزمة المناخ هي على وجه التحديد نتيجة لهذا الطغيان في الميزان؛ فالاحتباس الحراري، وتغير أنماط هطول الأمطار، وفقدان التنوع البيولوجي، كلها علامات على اختلال التوازن الطبيعي الذي نهى عنه القرآن. يؤكد القرآن على أهمية الحفاظ على هذا النظام والتوازن في كل جانب من جوانب الحياة، بما في ذلك كيفية تفاعلنا مع الطبيعة. بالإضافة إلى ذلك، ينهى القرآن بشدة عن "الفساد" و "الإسراف" في الأرض. في سورة الأعراف، الآية 56، نقرأ: "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا" (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها). يشمل الفساد في الأرض أي تدمير أو إضرار بالموارد الطبيعية، والتلوث، وتدمير الأنظمة البيئية. تذكرنا هذه الآية بأن الأرض خُلقت في البداية في حالة صحية ومتوازنة، وواجبنا هو الحفاظ على هذه الصحة وعدم إحداث فساد فيها. وأزمة المناخ هي بوضوح "فساد" واسع النطاق فرضه الإنسان على الأرض. وبالمثل، في العديد من الآيات، ينهى عن الإسراف والتجاوز؛ مثل سورة الأعراف، الآية 31: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (كلوا واشربوا ولا تسرفوا؛ إنه لا يحب المسرفين). لا يقتصر هذا المبدأ على الأكل والشرب فحسب، بل يمتد ليشمل استهلاك جميع الموارد. إن الاستخدام المفرط للطاقة والمياه والموارد الطبيعية الأخرى هو مثال واضح على الإسراف الذي يساهم بشكل مباشر في أزمة المناخ. يدعونا القرآن إلى الاعتدال وتجنب هدر الموارد، لأنها موارد محدودة ونعم إلهية يجب تقديرها. ويؤكد القرآن أيضًا على مفهوم "الشكر" والامتنان للنعم الإلهية. كل ما في السماوات والأرض نعم من عند الله، خلقت لمنفعة الإنسان. والاستخدام المسؤول والمستدام لهذه النعم هو علامة على الشكر، بينما يعتبر تدميرها وإهدارها كفرًا بالنعم. في سورة إبراهيم، الآية 34، يقول: "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (وآتاكم من كل ما سألتموه؛ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها؛ إن الإنسان لظلوم كفار). تذكرنا هذه الآية بوفرة النعم وفي الوقت نفسه بمسؤوليتنا تجاهها. أي تدمير بيئي هو شكل من أشكال الجحود تجاه الخالق ونعمه. أخيرًا، يشير القرآن بوضوح إلى عواقب أفعال الإنسان على الأرض. سورة الروم، الآية 41، تقول: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون). تشير هذه الآية بوضوح إلى أن التدمير البيئي هو نتيجة مباشرة لأفعال الإنسان، وهذا الفساد بدوره سيجلب عواقب وخيمة على البشرية نفسها. أزمة المناخ، والاحتباس الحراري، والجفاف، والفيضانات، والعواصف الشديدة، كلها أمثلة واضحة على "إذاقة" البشر لنتائج أفعالهم، كما ذكر القرآن. هذه الآية دعوة للعودة إلى الطريق الصحيح وتصحيح السلوك قبل فوات الأوان. بناءً على هذه المفاهيم العميقة والأساسية، يمكن الاستنتاج أن القرآن لا يملك وجهة نظر حول البيئة وأزمة المناخ فحسب، بل يقدم إرشادات شاملة وكاملة للوقاية منها والتصدي لها. تستند هذه الإرشادات إلى مسؤولية الإنسان، والحفاظ على توازن الخلق، والامتناع عن الفساد والإسراف، والتعبير عن الشكر للنعم الإلهية. إن الالتزام بهذه المبادئ لا يساعد فقط في الحفاظ على صحة كوكبنا، بل يؤدي أيضًا إلى سعادة البشرية وسلامها. يقدم هذا المنظور القرآني مقاربة شاملة وأخلاقية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، والتي يمكن أن تلهم حلولاً مستدامة للتحديات البيئية الراهنة.
في حكايات سعدي، تتجلى قيمة الاعتدال وعواقب الطمع مرارًا وتكرارًا. ذات يوم، كان في أرض معينة جارين، يملك كل منهما بستانًا. أحدهما، على عادة الحكماء، كان يعتني ببستانه بحب وتواضع؛ كل عام، كان يجمع من ثماره ما يكفيه فقط، ويرعى الأشجار بلطف لتعطي ثمارها مرة أخرى. كان بستانه دائمًا خضرًا ومباركًا، وكأنما امتنانًا لرعايته، كان يمنح بركاته بسخاء أكبر. أما الجار الآخر، بدافع الطمع والعجلة، أراد أن يجمع جميع ثمار بستانه دفعة واحدة في موسم واحد ليصبح غنيًا. فقلع الأشجار بوحشية بل وكسر بعض الأغصان في عجلة منه. فماذا كانت النتيجة؟ استمر بستان الجار الحكيم في الإثمار لسنوات وسنوات، فكان مصدر راحة ورزق له ولأولاده. لكن بستان الجار الطماع، أصبح قاحلاً ومتضررًا، وذبل ولم يعد يثمر شيئًا. يلقننا سعدي، بلغته العذبة، درسًا خالداً: الأرض، مثل بستان كريم، تحتاج إلى التدبير والرعاية، لا إلى الاستغلال الوحشي. أولئك الذين يفكرون فقط في ربحهم الحالي ويغفلون عن مستقبل الأرض، يحرمون أنفسهم في النهاية من بركاتها. إن الحفاظ على النعم الإلهية وصيانتها هو الضامن لاستمرار الحياة والبركة.