لا يذكر القرآن الكريم «الرأسمالية» مباشرة، ولكنه يقدم إطارًا أخلاقيًا شاملاً للاقتصاد، يركز على مبادئ مثل العدل، تحريم الربا، وجوب الزكاة، الكسب الحلال، والاعتدال، لمنع الظلم وعدم المساواة وضمان رفاه المجتمع.
القرآن الكريم، بصفته كتاب هداية إلهية، لا يتناول مصطلح «الرأسمالية» بمفهومها الحديث بشكل مباشر، وذلك لأن هذا المصطلح نشأ وتطور في فترات تاريخية وتحولات اقتصادية حديثة. ومع ذلك، لا يعني هذا أن القرآن صامت تجاه المسائل الاقتصادية. بل على العكس، يقدم القرآن الكريم إطارًا أخلاقيًا وقانونيًا شاملاً وعميقًا لجميع جوانب حياة الإنسان، بما في ذلك الأنشطة الاقتصادية، والذي يمكن أن يكون أساسًا لتحليل وتقييم مختلف الأنظمة الاقتصادية. إن النظرة القرآنية للاقتصاد لا تقتصر على الإنتاج وتوزيع الثروة فحسب، بل تركز بشدة على أبعادها الأخلاقية والاجتماعية، ولا تفصلها عن المسؤوليات الفردية والجماعية تجاه الله والمجتمع. أحد أبرز المبادئ الاقتصادية المحورية في القرآن هو مبدأ «العدل». يرفض القرآن بشدة أي شكل من أشكال الظلم والاستغلال وعدم المساواة في المعاملات الاقتصادية. وتؤكد العديد من الآيات على ضرورة مراعاة العدل والإنصاف في الكيل والوزن والعقود وجميع أنواع المعاملات. هذه العدالة ليست مهمة على المستوى الفردي فحسب، بل على المستوى الاجتماعي أيضًا؛ بمعنى أن النظام الاقتصادي لا ينبغي أن يؤدي إلى تراكم الثروة في أيدي قلة قليلة، مما يحرم قطاعات واسعة من المجتمع. يقول الله تعالى في سورة الحشر، الآية 7: «كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ» (لِكَيْ لَا يَكُونَ مَتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ فَقَطْ). تدل هذه الآية على ضرورة التوزيع العادل للثروة ومنع احتكارها. المبدأ الهام الآخر هو «تحريم الربا» أو الفائدة. لقد حرم القرآن الربا صراحة، واصفًا إياه بأنه حرب على الله ورسوله (البقرة، الآية 279). ويعود هذا التحريم إلى الطبيعة الاستغلالية للربا، التي تؤدي إلى زيادة غير عادلة في ثروة البعض وفقر ودين للبعض الآخر، مما يعيق التداول الصحيح للثروة والاستثمار المنتج في المجتمع. وفي المقابل، يشجع القرآن على «التجارة» والكسب الحلال بالتراضي والإنصاف بين الطرفين. وهذا يعني أن كسب الأرباح من خلال الأنشطة المشروعة والمفيدة للمجتمع ليس مذمومًا فحسب، بل هو مقبول، شريطة أن يتم بوسائل عادلة وأخلاقية. «الزكاة» و«الصدقة» من الركائز الأساسية للنظام الاقتصادي في القرآن. فالزكاة فريضة مالية واجبة تؤخذ من أموال الأغنياء وتنفق على الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم من المصارف المحددة في القرآن. هذا النظام ليس مجرد أداة لإعادة توزيع الثروة، بل يطهر مال الفرد وروحه ويمنع البخل والجشع. كما أن الصدقات (الإنفاق المستحب) تشجع بشدة، وتؤكد على فكرة أن المال هو أمانة من الله، ويجب على الإنسان أن ينفق جزءًا منه في سبيل الله ومساعدة المحتاجين. تلعب هذه الأعمال الخيرية والواجبات المالية دورًا حيويًا في خلق التكافل الاجتماعي، وتخفيف الفقر، وتقوية الروابط الإنسانية، وتجنب التراكم المفرط للثروة. «الكسب الحلال» و«تجنب الإسراف والتبذير» من المبادئ الأخلاقية الهامة الأخرى في الاقتصاد الإسلامي. يؤكد القرآن على أن الإنسان يجب أن يكسب رزقه من خلال العمل والجهد المشروع والحلال، وأن يتجنب أي شكل من أشكال الغش، الاحتيال، الاحتكار، الرشوة، السرقة، والمعاملات المحرمة. كما ينهى القرآن بشدة عن الإسراف والتبذير (تبديد الثروة والموارد بشكل مفرط). لا يشمل هذا النهي الاستهلاك الشخصي المفرط فحسب، بل يشير أيضًا إلى الاستخدام المسؤول للموارد العامة والبيئة. الاقتصاد القرآني هو اقتصاد منتج ومفيد، يجب أن تستخدم فيه الثروة لتلبية احتياجات المجتمع والتنمية المستدامة، وليس للتفاخر والتدمير. في الختام، يمكن القول إن القرآن، على عكس الرأسمالية التي تركز على تعظيم الأرباح الفردية والمنافسة الحرة (غالبًا دون اعتبار للعواقب الأخلاقية والاجتماعية)، يقدم رؤية شاملة ومركزة على الأخلاق في الاقتصاد. تستند هذه الرؤية إلى مبادئ مثل العدل، تحريم الربا، وجوب الزكاة، الكسب الحلال، المسؤولية الاجتماعية، والاعتدال في الاستهلاك. هدفها النهائي ليس الرفاه المادي فحسب، بل الرفاه الروحي والاجتماعي للمجتمع بأكمله. بعبارة أخرى، يسعى القرآن إلى نظام اقتصادي يعترف بالحرية الاقتصادية ولكنه يحدها ضمن أطر أخلاقية واجتماعية لمنع ظهور تفاوتات حادة، وظلم، واستغلال، وبالتالي التحرك نحو مجتمع متوازن، متكافل، وفاضل. هذه المبادئ لا تسمح بالرأسمالية الجامحة بل تقيدها بمعايير إلهية لضمان نمو المصالح الفردية والجماعية في وئام.
يُحكى أنه في عهد ملك عادل، كان هناك تاجر ذكي ومحاسب للغاية في معاملاته، يسعى دائمًا لتحقيق أقصى ربح، أحيانًا حتى باستخدام أساليب تنحرف قليلاً عن طريق العدل. وقد سمع الملك عن ذكاء هذا التاجر وثروته، فدعاه يومًا وقال: «لقد سمعت أنك ماهر جدًا في التجارة وتمتلك ثروة طائلة. ولكن هل فكرت يومًا أن المال الحلال والبركة لا يأتيان إلا بالعدل والإنصاف؟» فأطرق التاجر رأسه وقال: «يا مولاي، نحن التجار نبذل قصارى جهدنا لتحقيق المزيد من الربح.» فابتسم الملك وأضاف بلهجة دافئة وأبوية: «نعم، الربح والازدهار في التجارة أمران جيدان، ولكن ليس على حساب حقوق الآخرين، أو من خلال الاحتكار والربا. فالثروة التي لا ترافقها العدالة والكرم هي مثل الماء في اليد، عاجلاً أم آجلاً ستتسرب من بين الأصابع. إياك أن تأخذ الجشع بركة مالك.» استمع التاجر لنصيحة الملك بقلبه، وبعد ذلك، غير أساليبه التجارية. تعلم أن مراعاة العدل وتقديم حقوق الفقراء والمساكين، لا ينقص من ماله فحسب، بل يزيده بركة واستدامة، ويمنحه راحة بال لا توصف.