يُقيّم القرآن الجهل الأخلاقي بدقة؛ فالمغفرة الإلهية واسعة لمن لم يتلقوا الهداية، بينما يكون الحكم شديدًا على من رفضوا أو تجاهلوا المعرفة عمدًا.
هل القرآن الكريم يصدر حكمًا على الجهل الأخلاقي؟ هذا سؤال عميق يتناول جوهر العدالة الإلهية، ومسؤولية الإنسان، وطبيعة الهداية في الإسلام. إن القرآن الكريم، بصفته الدليل الأسمى للبشرية، يتناول بالفعل مفهوم الجهل الأخلاقي، ولكن حكمه دقيق ويميز بين أنواع مختلفة من الجهل وآثارها. إنه موضوع يؤكد على رحمة الله اللامحدودة وعدالته الثابتة. في جوهره الأساسي، يؤسس القرآن مبدأ عدالة لا تُكلف نفسًا إلا وسعها، ولا يُعاقب أحد إلا بعد أن يكون قد تلقى هداية واضحة. هذا ما ورد بوضوح في سورة الإسراء (17:15): "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا". تحدد هذه الآية مبدأً تأسيسيًا: المساءلة الإلهية مرتبطة بتوفر الهداية الإلهية. إذا كان الشخص ليس لديه وصول حقيقي إلى الحقيقة، أو لم يسمع الرسالة قط، أو عاش في عصر أو مكان كان فيه العلم غير متاح على الإطلاق، فإن وضعه ينظر إليه الله بشكل مختلف. هؤلاء الأفراد، الذين يُشار إليهم غالبًا في اللاهوت الإسلامي بـ "أهل الفترة" (الأشخاص الذين عاشوا في الفترة الفاصلة بين الرسل)، يخضعون لحكم الله النهائي، والذي يتأصل في عدالته ورحمته الكاملة، حيث يقيم ميلهم الفطري نحو الخير (الفطرة) وأفعالهم بناءً على ما قد يكون لديهم من نور. ومع ذلك، يوضح القرآن أيضًا أن ليس كل جهل مغتفرًا. هناك تمييز حاسم بين الجهل الذي ينشأ عن نقص حقيقي في الوصول إلى المعرفة، والجهل الذي ينبع من الإهمال، أو العناد، أو الرفض المتعمد لطلب الحقيقة وقبولها. يدين القرآن بشدة أولئك الذين، على الرغم من وجود العلامات الواضحة، أو الرسل، أو القدرة على طلب المعرفة، يختارون البقاء في الجهل أو يرفضون الحقيقة بنشاط. هذا ليس جهلًا سلبيًا بل هو ابتعاد نشط عن الهداية. على سبيل المثال، تصف العديد من الآيات أولئك الذين يمتلكون العقل والسمع والبصر ولكنهم يختارون عدم استخدامها لفهم الرسالة الإلهية، مشبهين إياهم بالأنعام أو ما هو أسوأ. قلوبهم مختومة، ليس تعسفًا من الله، بل بسبب رفضهم المستمر وخطاياهم. يتناول القرآن أيضًا الأخطاء التي ترتكب بسبب ما يمكن تسميته "الإهمال" أو "الجهل غير المتعمد". تتحدث سورة النساء (4:17) عن التوبة لمن "يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب". مصطلح "جهالة" هنا يمكن أن يعني الغفلة، أو الحماقة، أو عدم معرفة الأفضل في لحظة الفعل، وليس النقص المطلق في المعرفة. إذا أدرك هؤلاء الأفراد خطأهم وتابوا بصدق، فإن الله غفور. يشير هذا إلى أن الأخطاء البشرية والزلات غير المتعمدة، حتى لو كانت متجذرة في خطأ مؤقت في الحكم أو فهم غير كامل، مفتوحة للرحمة والمغفرة الإلهية عند التوبة الصادقة. تعزز سورة البقرة (2:286) هذا المفهوم، حيث يدعو المؤمنون: "رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا". هذه الدعاء، الذي وعد الله بالإجابة عليه، يؤكد أن الأخطاء غير المتعمدة (بما في ذلك تلك التي تنشأ عن نسيان حقيقي أو عدم وعي فوري) لا تحسب على الشخص بنفس الطريقة التي يحسب بها التحدي المتعمد. علاوة على ذلك، يشدد القرآن بقوة على مسؤولية الإنسان في طلب العلم والتأمل في آيات الله في الكون وفي أنفسهم. الإسلام دين يقدر العلم تقديراً عالياً. إهمال تعلم دين المرء وأحكامه الأخلاقية، خاصة عندما تكون الوسائل متاحة، يمكن أن يتحول من جهل لا يُلام إلى إهمال يستحق اللوم. إذا عاش المرء في مجتمع تتواجد فيه رسالة الإسلام، أو حيث تتجلى المبادئ الأخلاقية العالمية (مثل الصدق والعدل واللطف) من خلال الوجدان البشري الفطري (الفطرة) والمعايير الاجتماعية، فمن المتوقع من الشخص أن يتعامل مع هذه المبادئ. في جوهر الأمر، يحكم القرآن على الجهل الأخلاقي ضمن طيف واسع. في أحد طرفي هذا الطيف، توجد رحمة عميقة لأولئك الذين لم تكن لديهم فرصة حقيقية لمعرفة الحقيقة. وفي الطرف الآخر، هناك حكم شديد على أولئك الذين تجاهلوا عمداً، أو رفضوا، أو قمعوا بنشاط المعرفة والهداية التي أُتيحت لهم. بالنسبة للغالبية العظمى من الناس الذين قد يقعون في مكان ما بين هذين الطرفين - أولئك الذين يرتكبون أخطاء بسبب فهم غير كامل، أو إهمال لحظي، أو مجرد نقص في البصيرة العميقة في قضية أخلاقية معينة - يبقى باب التوبة ورحمة الله مفتوحًا على مصراعيه. الحكم النهائي يقع على عاتق الله، الذي يعلم كل قلب، وكل نية، وكل ظرف. إنه تذكير لنا بأن نسعى باستمرار للمعرفة، ونتأمل بعمق، ونسعى جاهدين للعيش وفقًا للتوجيهات الأخلاقية التي يوفرها القرآن، واعين دائمًا بأن قاضينا الحقيقي هو العليم الحكيم الرحيم. وبالتالي، فإن السعي المستمر للمعرفة والتطور الأخلاقي ليس مجرد مسعى روحي بل هو جانب أساسي من جوانب المساءلة في نظر الله. يضمن هذا النهج الشامل أن العدالة الإلهية عادلة تمامًا ورحيمة بلا حدود.
في حكايات روضة سعدي (گلستان)، يُروى أن شابًا متحمسًا، طاهر النية لكنه يفتقر إلى المعرفة العميقة، كان حريصًا على فعل الخير. كان يسرع بحماس كبير لمساعدة المحتاجين، لكن أحيانًا، وبسبب جهله بالعواقب، لم يكن عمله يجلب أي فائدة بل يخلق مشكلة جديدة. كانت نيته نقية، لكن منهجه كان خاطئًا. راقبه شيخ حكيم. ذات يوم، قال الشيخ للشاب: 'يا فتى، إن طريق البر لا يُمهد بالنية الصالحة وحدها، بل يحتاج أيضًا إلى المعرفة الصحيحة. المصباح بلا زيت، مهما كان جميل الصنع، لا يستطيع إضاءة الطريق. وبالمثل، الحماس بلا حكمة يمكن أن يضل المرء. اطلب العلم بجد، فالعلم هو النور الحقيقي الذي يهدي القلب ويصقل الأعمال، ليضمن أن نواياك النقية تثمر ثمارًا نافعة حقًا.' أخذ الشاب كلمات الشيخ على محمل الجد، وتقبل بتواضع أن العمل الأخلاقي الحقيقي يتطلب قلبًا نقيًا وعقلًا مستنيرًا.