يحدد القرآن الكريم مبادئ أساسية لحماية المساحة الشخصية من خلال أوامر مثل الاستئذان قبل دخول البيوت، والنهي عن التجسس والغيبة، والأمر بغض البصر. تهدف هذه التعاليم إلى تعزيز بيئة من الثقة والاحترام والأمان النفسي داخل المجتمع.
لقد طرحت سؤالاً غاية في الأهمية والحيوية، لأن الحفاظ على الخصوصية يعد أحد الأعمدة الأساسية للسكينة الفردية والتماسك الاجتماعي في أي مجتمع. وعلى الرغم من أن مصطلح "الخصوصية" بمعناه الحديث لم يُستخدم صراحة في القرآن الكريم، إلا أن هناك العديد من التعاليم والآيات القرآنية التي تؤكد بشكل صريح وضمني على ضرورة احترام المساحة الشخصية للأفراد ومنع التعدي عليها. هذا التأكيد القرآني يظهر النظرة العميقة والشاملة للإسلام لكرامة الإنسان، ويعتبر مراعاة الحدود الشخصية جزءًا لا يتجزأ من الأخلاق الإيمانية. من أبرز الأمثلة على مراعاة الخصوصية في القرآن هي الآيات التي تتناول آداب دخول البيوت. ففي سورة النور، الآيات 27 و 28، يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بوضوح تام بعدم دخول بيوت غير بيوتهم إلا بعد الاستئذان وإلقاء السلام على أهلها. هذا الأمر الإلهي ليس مجرد أدب اجتماعي بسيط، بل يكشف عن عمق نظرة الإسلام إلى "الأمن النفسي" و"الشعور بالراحة" للأفراد في بيئاتهم الخاصة. تخيلوا لو أن أي شخص دخل بيت غيره دون إذن، لأي فوضى سيؤدي ذلك في المجتمع، وكم سيزداد الشعور بانعدام الأمان بين الناس. ولمنع مثل هذا الوضع، وضع القرآن هذه القاعدة الذهبية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ". هذه الآيات تُعبّر صراحة عن حق الأفراد في ملكية مساحاتهم الشخصية وضرورة احترامها، وتنهى عن أي دخول غير مأذون به. وحتى لو لم يُسمح بالدخول أو طُلب منك العودة، فإن الالتزام بهذا الحكم، من منظور القرآن، أزكى وأنقى لروحك وسلوكك الاجتماعي. هذه التعليمات المفصلة تبرز بصيرة الإسلام في وضع معايير اجتماعية تحمي السلام الشخصي وتمنع السلوكيات المتطفلة، وتضع مبدأً أساسياً للوئام المجتمعي. بالإضافة إلى ذلك، فقد نهى القرآن الكريم صراحة عن التجسس والفضول في الأمور الخفية للآخرين. ففي سورة الحجرات، الآية 12، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ". تشير هذه الآية الشريفة إلى ثلاثة جوانب مهمة لحماية الخصوصية: أولاً، الابتعاد عن الظن السيء، الذي هو أساس التجسس. ثانياً، النهي المباشر عن "التجسس" بمعنى البحث والتقصي عن عيوب وأسرار الآخرين الخفية. ويشمل هذا الحكم أي محاولة لكشف ما يقصد الأفراد إخفاءه، سواء كان ذلك عن طريق التنصت أو التلصص أو أي وسيلة أخرى. ثالثاً، النهي عن "الغيبة" التي هي بحد ذاتها اعتداء على خصوصية الفرد بعد كشف عيوبه. إن مقارنة الغيبة بأكل لحم الأخ الميت تُظهر أقصى درجات القبح لهذه الفعلة في نظر الإسلام، وتؤكد على أهمية حفظ كرامة الأفراد حتى في غيابهم. هذه الأحكام الثلاثة تحمي بشكل كامل المساحة الشخصية للأفراد من الفضول غير المبرر وكشف الأسرار. كما أن مفهوم "غض البصر" أو غض الطرف في سورة النور، الآية 30، يرتبط بنوع من الخصوصية البصرية للأفراد. فعندما يأمر القرآن المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم، فإن هذا لا يساعد فقط على العفة والطهارة الفردية، بل يعني أيضاً عدم التدخل والفضول فيما يخص الآخرين. عدم النظر إلى ما لا ينبغي رؤيته هو بحد ذاته شكل من أشكال احترام خصوصية الآخرين، ويمنع التجسس البصري. تعلم هذه التعليمات المسلمين ألا يكونوا فضوليين بشكل مفرط فيما يخص الآخرين وألا يتجاوزوا الحدود الأخلاقية. هذا يتجاوز مجرد الحشمة الجسدية؛ فهو يشمل احترام حرمة لحظات الآخرين ومساحاتهم الخاصة، ومنع النظرات غير المرغوب فيها والملاحظات المتطفلة، مما يبني مجتمعاً قائماً على الاحترام المتبادل. علاوة على ذلك، يؤكد الإسلام على الحفاظ على "الستر" وستر العورات، وهو نوع آخر من الخصوصية الجسدية. هذه التوجيهات تسمح للأفراد بحماية أجسادهم من العيون المتطفلة والحفاظ على حدودهم الشخصية من الرؤى غير المرغوب فيها. وحفظ أسرار الزوجية، وحفظ أسرار الأصدقاء والعائلة، وعدم كشف عيوب الآخرين، كلها من مصاديق حفظ الخصوصية في التعاليم القرآنية والسنة النبوية. يطلب الإسلام من الأفراد ألا يمتنعوا عن كشف عيوبهم فحسب، بل أن يستروا عيوب الآخرين أيضاً ويمنعوا انتشار الفحشاء والمنكر في المجتمع. هذه الأوامر توفر بيئة عامة من الثقة والاحترام المتبادل والأمان، حيث يمكن لكل فرد أن يعيش بسلام وكرامة، دون أن يقلق بشأن التعدي على خصوصيته الشخصية. لذلك، يمكن القول إن القرآن الكريم، بوسائل مختلفة ومن أبعاد متعددة، يضمن الحقوق المتعلقة بالخصوصية ويجعل مراعاتها من المتطلبات الأخلاقية والإيمانية للمؤمنين، ويقدم خريطة طريق كاملة للعيش الاجتماعي المتناغم.
يُروى أنه في الأزمان الغابرة، عاش رجل عجوز حكيم في مدينة اشتهر بعمق بصيرته. ذات يوم، أتاه شاب مندفع وفضولي وقال: «يا حكيم، أنا على علم كبير بأحوال جيراني ومعارفي، وأنا على دراية بأسرارهم. أظن أن هذا نوع من اليقظة والفطنة.» فردّ عليه الرجل العجوز الحكيم بابتسامة هادئة: «يا بني، الحكمة الحقيقية تكمن في معرفة ما ينفعك، لا في التنقيب عما يخص الآخرين. لجدار الجار حرمة، وكل نظرة فضولية إليه هي انتهاك لهذه الحرمة. لكل قلب زاوية لا يدخلها أحد سوى صاحبها. لو أنك بدلاً من أن توجه نظرك إلى أحوال الآخرين، نظرت إلى عيوب نفسك، لوجدت طريق الخلاص أقرب. يتحقق السلام عندما لا تتجسس على أفكار الآخرين ولا تكشف أسرارهم، فإن الله ستير يحب الستر، ويدعو الإنسان إلى التستر.» أخذ الشاب العبرة من كلام الشيخ، وتعلم أن احترام خصوصية الآخرين هو علامة على الأدب والحكمة، ويجلب السلام والسكينة.