لا يتحدث القرآن مباشرة عن "ضغوط الإنتاجية" بمصطلحاتها الحديثة، لكنه يقدم مبادئ شاملة للاعتدال، والتوكل على الله، وأهمية الراحة، والهدف الأسمى للحياة (العبادة) لمنع الإنسان من الانغماس في شؤون الدنيا. هذه المبادئ ترشدنا للتعامل مع الحياة والعمل بتوازن وسلام، وتجنب الإفراط في المادية.
القرآن الكريم، وهو كتاب هداية ودليل شامل لحياة البشرية، وإن لم يستخدم مباشرة المصطلحات الحديثة مثل "الضغوط المتواصلة للإنتاجية" أو "الإفراط في الإنتاجية"، إلا أنه يقدم مبادئ وأسسًا عميقة تساعدنا على التعامل مع هذه الظواهر بطريقة متوازنة وبناءة. في الواقع، إن الرؤية الكونية للقرآن مبنية على التوازن والاعتدال وهدفية الحياة، وهو ينهى عن أي شكل من أشكال التطرف أو التفريط، بما في ذلك الانغماس اللامحدود في الشؤون الدنيوية والمادية البحتة. في العصر الحالي، حيث يواجه البشر تحديات متزايدة مثل الإجهاد الناتج عن المنافسة الشديدة، والتوقعات المجتمعية العالية، والضغط لتحقيق أقصى قدر من الإنتاجية، تبرز تعاليم القرآن كمنارة مضيئة. هذه التعاليم تذكرنا بأن الحياة أبعد من مجرد الإنتاج وتكديس الثروة؛ فالأبعاد الروحية والجسدية والاجتماعية والمعنوية لها نفس الأهمية ويجب ألا تُضحى من أجل جانب واحد محدد. أحد أهم المفاهيم القرآنية المحورية التي تنطبق على مواجهة ضغوط الإنتاجية المتواصلة هو مبدأ "الاعتدال" و"الميزان". فالله تعالى في القرآن يؤكد مرارًا على إقامة العدل والحفاظ على التوازن في جميع الأمور؛ وهذا التوازن يجب أن يُراعى ليس فقط في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، بل في أسلوب حياة الفرد أيضًا. المؤمن الحق هو الذي يحقق التناغم بين العمل والعبادة، بين السعي للرزق والاهتمام بالآخرة، وبين حقوقه وحقوق الآخرين. تُعبّر الآية 77 من سورة القصص عن هذا المبدأ بجمال: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ". هذه الآية تقول بوضوح إنه لا ينبغي التخلي عن الدنيا تمامًا، بل يجب الاستفادة منها، ولكن الهدف الأساسي والنهائي يجب أن يكون بلوغ رضا الله تعالى والسعادة الأخروية. هذا يرسم توازنًا دقيقًا وحيويًا ينقذ الإنسان من الغرق في المطالب الدنيوية والمادية البحتة. في هذه الآية، ذُكر السعي للآخرة قبل الاستفادة من الدنيا، مما يشير إلى الترتيب الصحيح للأولويات، ولكن عدم نسيان نصيب المرء من الدنيا مؤكد أيضًا، بمعنى لا إفراط في حب الدنيا ولا تفريط في تركها. عندما يركز الفرد حصريًا على الإنتاجية المادية، قد يسبب "فسادًا في الأرض"؛ هذا الفساد يمكن أن يشمل تجاهل حقوق الآخرين، أو تدمير البيئة، أو حتى إلحاق الضرر بالصحة النفسية والجسدية. مثل هذا النهج الذي يؤدي إلى فقدان التوازن، لا يتوافق مع المنظور القرآني. كذلك، يحدد القرآن الهدف الرئيسي من خلق الإنسان بأنه "العبادة" وخدمة الله تعالى. في سورة الذاريات، الآية 56، نقرأ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". هذه الآية تذكرنا بأنه حتى في ذروة الأنشطة الدنيوية والسعي للإنتاجية، لا ينبغي أن نغفل عن الهدف الأساسي من الخلق. غالبًا ما تؤدي الضغوط المتواصلة للإنتاجية إلى تقليل الأفراد لعباداتهم، والابتعاد عن العائلة والأصدقاء، بل وحتى تعريض صحتهم الجسدية والنفسية للخطر. من المنظور القرآني، الإنتاجية الحقيقية هي تلك التي تخدم الأهداف الإنسانية والإلهية الأسمى، بدلاً من أن تتحول هي نفسها إلى صنم يستهلك كل طاقة الإنسان ووقته. إذا بلغ السعي نحو الإنتاجية حدًا يلهي الإنسان عن ذكر الله، وعن أداء واجباته الشرعية، وعن عائلته، وعن واجباته الإنسانية، فإن هذه الإنتاجية ليست مستحسنة بل مذمومة. هذا النسيان للهدف الأساسي هو في حد ذاته خسارة عظيمة تجعل كل النجاحات الدنيوية بلا قيمة. بالإضافة إلى ذلك، يولي القرآن اهتمامًا خاصًا لأهمية "الراحة" و"التوقيت" المناسب للأنشطة. في سورة الفرقان، الآية 47، يقول تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا". هذه الآية تشير إلى أن الله قد خصص أوقاتًا مناسبة لكل نشاط. الليل للراحة والسكينة لكي يتجدد جسد الإنسان وروحه، والنهار للسعي وكسب الرزق الحلال. غالبًا ما تؤدي الضغوط المتواصلة للإنتاجية إلى تعطيل هذه الدورة الطبيعية والإلهية؛ يضطر الأفراد للعمل لساعات طويلة، والتضحية بنومهم، وفقدان فرص الراحة والتعافي. هذا لا يؤدي فقط إلى الإرهاق الجسدي والنفسي، بل يقلل أيضًا من الكفاءة والإبداع على المدى الطويل. إن صحة الجسد والنفس أمانة إلهية يجب المحافظة عليها، والإخلال بهذه الدورة الطبيعية يتعارض مع هذه الأمانة. فالقرآن ضمنيًا يعارض هذا النمط من الحياة الذي يضحي بصحة الإنسان وراحته، لأن الإنسان المنهك لن يكون لديه الكفاءة اللازمة في الأمور الدنيوية فحسب، بل سيُعيق أيضًا عن أداء واجباته الروحية. قضية "القناعة" و"التوكل" على الله هي أيضًا نقاط مهمة تُطرح في مواجهة ضغوط الإنتاجية. فكثير من هذه الضغوط ينبع من الخوف من الفقر، أو الرغبة في جمع المزيد من الثروة، أو المنافسة مع الآخرين. يدعو القرآن الكريم الناس مرارًا إلى التوكل على الله والابتعاد عن الجشع والطمع. في سورة التكاثر، يذم صراحة "المنافسة في الزيادة" (التكاثر)، قائلاً: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)". هذه الآيات تمثل تحذيرًا جادًا لأولئك الذين يقضون حياتهم في منافسة لا تتوقف لجمع المزيد والمزيد، غافلين عن الهدف الأساسي للحياة. هذا الجشع والطمع يمكن أن يكون مصدرًا للضغوط الداخلية والخارجية من أجل إنتاجية لا حدود لها. يعلمنا القرآن أن الله هو الرازق، ويجب ألا تقودنا المخاوف بشأن الرزق إلى ممارسات غير صحية، أو سلوكيات غير أخلاقية، أو إهمال واجباتنا الأساسية. التوكل الحقيقي لا يعني التخلي عن الجهد، بل يعني بذل الجهد المعقول ثم تسليم النتائج لله، دون الوقوع في هوة القلق والجشع والطمع. مفهوم البركة، وهو مفهوم قرآني وإسلامي، يشير إلى أنه في بعض الأحيان، بجهد أقل ولكن بنية خالصة وتوكل، يمكن تحقيق إنجازات أكبر، لأن الله يضع البركة في وقت الشخص وموارده. في الختام، يمكن القول إن القرآن، بنهجه الشامل الذي يركز على الإنسان، يقدم إطارًا للحياة يُمدح فيه العمل والسعي للرزق، ويُذم فيه الكسل، ولكن هذا السعي لا يُعد أبدًا الهدف الأسمى للحياة. فالإنتاجية المرغوبة من منظور القرآن هي تلك التي تؤدي إلى نمو الإنسان وسموه في جميع الأبعاد، وليس فقط المادية. هذا النهج يساعدنا في عالم اليوم سريع الوتيرة، أثناء سعينا للنجاح وكسب الرزق الحلال، على الهروب من فخ الضغوط المفرطة وعيش حياة ذات معنى وهدوء وهدف. يذكرنا القرآن بأن قيمة الإنسان لا تُقاس بإنتاجه أو ثروته، بل بتقواه وإيمانه وحسن خلقه، والخدمة التي يقدمها للبشرية. لذلك، فإن رد القرآن على الضغوط المتواصلة للإنتاجية، هو دعوة لإعادة تقييم القيم، وتحديد الأولويات بشكل صحيح، والتحرك نحو حياة متوازنة ومتناغمة تُعتبر فيها رضا الله، والصحة الجسدية والنفسية، والسلام الداخلي أكثر أهمية من أي مكاسب مادية أو نجاحات خارجية. هذه الرؤية هي ترياق قوي ضد الثقافة السائدة التي غالبًا ما تحول الإنسان إلى آلة لإنتاج المزيد، وبدلاً من ذلك، توجهه نحو حياة ذات جودة أعلى وأكثر معنى.
يُروى في "بوستان" سعدي أن درويشًا اعتزل الناس في زاوية، وأسعده القناعة وذكر الله. وذات يوم، مر به ملك من تلك البلاد وسأله: "أيها الدرويش، كيف تقضي أيامك في هذه العزلة والفقر، ومن أين لك هذا السلام؟" ابتسم الدرويش وقال: "أيها الملك، راحتنا تكمن في تحررنا من قيود الطمع والرغبات التي لا تنتهي. نحن قنوعون بما يرزقنا الله تعالى، ولا ندع بريق الدنيا يُعمي أبصارنا لنجري بلا توقف وراء المزيد. فمن يضع قلبه في الدنيا ويقضي الليل والنهار في طلب الزيادة، فلن يرى وجه الراحة والطمأنينة أبدًا، حتى لو حاز كنوز العالم كلها." فأخذ الملك العبرة من هذا القول، وأدرك أن السلام الحقيقي يكمن في القناعة والتحرر من الضغوط اللامتناهية للحصول على المزيد.