العدالة المطلقة لله موجودة في خلقه وأحكامه، لكن تجليها الكامل في الدنيا الفانية، وهي دار اختبار، لا يكون ظاهرًا دائمًا بسبب حرية اختيار الإنسان. العدالة الحقيقية والكاملة ستتحقق بالكامل في يوم القيامة، حيث سيُحاسب على كل ذرة عمل، ولن يُظلم أحد.
لطالما كان التساؤل حول وجود العدالة الحقيقية في الدنيا من أعمق وأساسي قضايا البشرية عبر التاريخ. فكل إنسان يواجه في حياته مشاهد من الظلم والتفاوت، مما يثير في ذهنه هذا السؤال: هل العالم عادل حقًا؟ وهل توجد عدالة تتجاوز القوانين التي يضعها البشر وقصوراتها؟ من منظور القرآن الكريم، تتطلب الإجابة على هذا السؤال فهمًا شاملاً لفلسفة الخلق، ومكانة الإنسان في الوجود، والمآل النهائي للأعمال. في الخطاب الإلهي، لا يُطرح مفهوم العدالة كـ "مثال أعلى" فحسب، بل كحقيقة محورية وأساسية في الخلق وتدبير الوجود. فالله تعالى يصف نفسه بصفة "العدل" و"الحكيم"، وهاتان الصفتان تشهدان على حقيقة أن الظلم والجور لا يصدران منه أبدًا، وأن نظام الوجود مبني على العدل. ومع ذلك، يجب أن يتوضح فهمنا لـ "العدالة الحقيقية في الدنيا" من خلال مراعاة دور الإنسان وطبيعة هذا العالم كدار ابتلاء. العدل الإلهي: أساس الوجود على العدل القرآن الكريم يصرّح بوضوح أن الله عادل مطلق، ولا يظلم أحدًا. "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (يونس: 44). هذه الآية تبين بوضوح أن أي ظلم أو جور يُشاهد في الدنيا هو نتيجة لأفعال البشر واختياراتهم، وليس تقصيرًا في العدل الإلهي. لقد قال الله تعالى: "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا" (الأنعام: 115)، مما يعني أن كل أحكام الله وأوامره مبنية على العدل والحق، وكل ما أمر به هو عين العدل. نظام الخلق أيضًا مبني على العدل. فمن النظام المذهل للنجوم والمجرات إلى التوازن الفريد في أجسام الكائنات الحية، كل ذلك يشير إلى "الميزان" والعدل الذي وضعه الله في خلقه. "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ" (الرحمن: 7). هذه الآية تشير إلى مبدأ كوني: أن الكون مبني على معايير دقيقة وعادلة. وبالتالي، فإن العدل الإلهي ليس ساريًا فقط في القوانين الشرعية، بل في القوانين التكوينية الحاكمة على الكون أيضًا. أي خلل أو جور في الطبيعة يعود في النهاية إلى التوازن، وهذا بحد ذاته علامة على العدل الإلهي. إذن، ردًا على سؤال "هل توجد العدالة الحقيقية في الدنيا؟" يجب أن نقول: نعم، العدالة الإلهية بمعنى وجود نظام عادل ومبادئ حكيمة في الخلق والتدبير الإلهي، موجودة قطعًا. لكن ما نطلق عليه "غياب العدالة" في الدنيا يعود في الأساس إلى تصرفات البشر. الدنيا: ساحة الابتلاء والاختيار البشري أحد الأسباب الرئيسية لوجود ما يبدو "ظلمًا" هو طبيعة الحياة الدنيا الحالية. هذه الدنيا "دار عمل" و"دار ابتلاء"، وليست "دار جزاء". لقد خلق الله الإنسان بالإرادة الحرة والاختيار ليتمكن من تحديد مسار حياته. وهذا الاختيار فرصة للنمو والارتقاء، ولكنه في الوقت نفسه يمكن أن يؤدي إلى سوء الاستخدام، والظلم، والفساد. "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان: 3)، لقد هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا. وبالتالي، يمكن للبشر، من خلال خياراتهم، أن يسلكوا طريق العدل أو الظلم. وعندما ينحرف البشر عن طريق العدل، تكون النتيجة ظلمًا وجورًا وتفاوتًا في المجتمع. هذا لا يعني عدم وجود العدالة الإلهية، بل يعني أن الله سمح للإنسان بتجربة عواقب اختياراته والتعلم منها. لو كان كل ظلم يُرد عليه بعقاب فوري وكامل، لانتفى مفهوم الاختيار والابتلاء، ولما عادت الدنيا مكانًا للاختيار الحر. كما أن العديد من المصائب والشدائد في الدنيا يمكن أن تكون بمثابة اختبار ووسيلة لتطهير النفوس أو رفع درجات المؤمنين، كما يقول الله تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (البقرة: 155). هذه الرؤية تبين أنه حتى في صميم ما يبدو لنا ظلمًا، تكمن حكمة إلهية تؤدي في النهاية إلى خير البشر أو إلى ظهور العدالة النهائية. مسؤولية الإنسان في إقامة العدل القرآن الكريم لا يتحدث فقط عن وجود العدالة الإلهية، بل يؤكد بشدة على مسؤولية البشر في إقامة العدل في المجتمع. الأوامر القرآنية الصريحة بإقامة القسط والعدل دليل على ذلك. "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" (النحل: 90)، هذا الأمر يمثل مبدأ عامًا لجميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية. في مجال القضاء، يأمر القرآن صراحة: "وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" (النساء: 58). هذه الأوامر تشير إلى أن الله يتوقع من البشر، رغم إرادتهم الحرة، أن يختاروا طريق الحق والعدل ويسعوا لتحقيقه على الأرض. وبالتالي، فإن السعي لإقامة العدل في الدنيا هو واجب إلهي وأخلاقي على كل فرد مسلم. هذا السعي يشمل مقاومة الظلم، ودعم المظلوم، وإقامة أنظمة اجتماعية عادلة. إن وجود هذه الأوامر بحد ذاته علامة على أن القدرة والإمكانية لإقامة العدل النسبي في الدنيا متاحة، ولكن تحقيقها الكامل يعتمد على الجهد والالتزام الجماعي للبشر. هذا لا يعني إنكار الظلم الواسع الانتشار في العالم، بل يعني أن جذر هذه المظالم يكمن في ضعف الإرادة البشرية أو سوء النية، وليس في غياب نظام عدل إلهي. في الحقيقة، يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى محاربة الظلم والطغيان، لأن هذه المحاربة جزء من واجبه الإلهي في إقامة العدل. يوم القيامة: التجلي الكامل واللا تشوبه شائبة للعدالة الإلهية النقطة الأهم في الإجابة على سؤال "هل توجد العدالة الحقيقية في الدنيا؟" هي أن المنظور الإسلامي لا يقصر العدالة على الدنيا وحدها. فقد تبقى الكثير من المظالم والأعمال الظالمة في الدنيا دون قصاص ظاهر، أو تُهضم حقوق لا تُعوّض في هذا العالم. لكن القرآن الكريم يعد بأن يومًا سيأتي تُسوّى فيه جميع الحسابات وتتجلّى العدالة بكل كمالها: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء: 47). في هذه الآية، يعد الله بأنه سيقيم موازين العدل يوم القيامة، ولن يُظلم أحد شيئًا، حتى لو كان بوزن حبة خردل، فإن الله سيحضرها ويحاسب عليها. كل عمل، صغيرًا كان أم كبيرًا، سيُكشف ويُحاسَب عليه. هذا اليوم هو يوم "فصل الخطاب" و"يوم الحساب". في ذلك اليوم، يسترد المظلوم حقه من الظالم، وحتى الحيوانات يُقتص بعضها من بعض. هذا المفهوم يجلب السكينة لقلوب ذاقت مرارة الظلم في الدنيا. إن هذا الإيمان بيوم القيامة لا يحافظ فقط على الأمل في تحقيق العدالة النهائية، بل يعمل أيضًا كرادع للظالمين ومحفز للذين يسلكون طريق العدل والحق. وبالتالي، فإن العدالة الحقيقية والكاملة، بمعنى الدفع الكامل للحقوق والمحاسبة الدقيقة لجميع الأعمال، موجودة قطعًا في الآخرة وستتحقق بشكل لا تشوبه شائبة. هذا الاعتقاد يؤكد لنا أن لا عمل، سواء كان خيرًا أو شرًا، سيبقى بلا جزاء أو عقاب في النهاية. الخاتمة: العدالة على مستويين في الختام، يمكن القول إنه من منظور القرآن، توجد العدالة على مستويين: 1. العدالة التكوينية والتشريعية الإلهية: هذا المستوى من العدالة موجود دائمًا ويتجلى في القوانين الحاكمة على الكون وفي أوامر الله. الله عادل ونظامه مبني على العدل. 2. العدالة في التجربة البشرية في الدنيا: هذا المستوى من العدالة ليس كاملاً. بسبب حرية اختيار الإنسان، تحدث تجاوزات ومظالم. الدنيا هي ساحة اختبار وهدفها تمييز الخير من الشر وتوفير فرصة للاختيار. ومع ذلك، فإن البشر ملزمون بالسعي لإقامة عدالة نسبية في مجتمعاتهم. 3. العدالة الكاملة والمطلقة في الآخرة: هذا اليوم يمثل ذروة تجلي العدل الإلهي، حيث يُحاسب على كل ذرة من عمل الإنسان، خيرًا كان أم شرًا، ولا يبقى ظلم بلا عقاب ولا حق ضائع بلا استرداد. إذن، ردًا على سؤال ما إذا كانت العدالة الحقيقية موجودة في الدنيا، يجب أن نقول: نعم، العدالة كمبدأ إلهي وأساسي موجودة في الخلق وفي أوامر الله. ومع ذلك، فإن تجليها الكامل واللا تشوبه شائبة لجميع الأفراد وفي جميع الأمور مؤجل إلى يوم القيامة. في الدنيا، نحن مكلفون بالسعي لتحقيق العدالة، مع فهم أن تحقيقها الكامل سيتم في الآخرة. هذا المنظور يمنحنا الأمل ويذكرنا بمسؤوليتنا في إحقاق الحق ومحاربة الظلم. هذه العدالة هي نور يضيء الطريق للبشر حتى في أحلك الأوقات ويؤكد لهم أن لا معاناة بلا سبب ولا عمل بلا حساب.
يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان هناك فلاح يملك قطعة أرض صغيرة مجاورة لأملاك وزير ظالم. أراد الوزير بقسوة أن يستولي على أرض الفلاح بالقوة. طرق الفلاح كل الأبواب، لكن بما أنه لا يملك قوة ولا مالًا، لم يُسمع له. يائسًا، رفع يديه داعيًا، طالبًا العون من الله العادل. مرت سنوات. الوزير الظالم، الذي كان قد غُرّ بثروته الهائلة وسلطته اللامحدودة، أفلس في تجاراته وأصابه البلاء تلو البلاء. سلك أولاده طريق الفساد، وتبددت أمواله الواحد تلو الآخر، حتى أصبح مشرّدًا ومحتاجًا. أما الفلاح، فبصبره وجهده، استعاد أرضه المفقودة عبر السبل القانونية وبمساعدة المحسنين، وبدأت حياته تتحسن ببطء. قال حكيم كان شاهدًا على هذه الأحداث: "حذار! لا تظن أن حساب الأعمال يضيع في هذا الدار! فالدنيا وإن كانت دار عمل، إلا أن بذرة العدل الإلهي قد زُرعت فيها وتُؤتي ثمارها في اليوم الآخر. وأحيانًا، حتى في هذه الدنيا، يُظهر الله شيئًا من عدله لعباده ليعلموا أن لا صرخة مظلوم تبقى بلا استجابة، ولا عمل صالح بلا جزاء، وإن طال الزمان."