تحمل الظلم أم المواجهة: رؤية قرآنية

الإسلام لا يؤيد تحمل الظلم بشكل عام بل يدعو إلى مواجهته. ومع ذلك، في بعض الظروف، قد يُنصح بـ "الصبر الاستراتيجي" لمنع ضرر أكبر أو عند عدم القدرة على المواجهة المباشرة، مما يتيح مقاومة أكثر فعالية في المستقبل.

إجابة القرآن

تحمل الظلم أم المواجهة: رؤية قرآنية

هل تحمل الظلم أفضل أحيانًا من مواجهته؟ هذا سؤال عميق ومتعدد الأوجه يتطلب دراسة متأنية في ضوء تعاليم القرآن الكريم. للوهلة الأولى، قد يبدو أن الإسلام يدعو دائمًا إلى مواجهة الظلم والوقوف بحزم ضد الظالمين، وهذا الفهم صحيح إلى حد كبير. لقد أدان القرآن الكريم الظلم مرارًا وتكرارًا وشجع المؤمنين على إقامة العدل. ومع ذلك، إلى جانب هذه الدعوة إلى العدالة، تم إدخال مفاهيم أخرى مثل "الصبر" و "الحكمة" و "تحديد الأولويات"، مما يزيد من تعقيد الإجابة. أولاً، يجب الاعتراف بأن الاستسلام للظلم لا يُوافق عليه بأي حال من الأحوال في المبادئ الأساسية للإسلام. يذكر الله صراحة في القرآن أنه لا يحب الظالمين ولا يهديهم. في عدة آيات، مثل سورة الشورى، الآيتين 41-42، يقول الله تعالى: "وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ". تشير هذه الآية بوضوح إلى أن مواجهة الظلم والدفاع عن الحق هو عمل مشروع ومطلوب. يُؤمر المؤمنون بالوقوف من أجل العدل، حتى لو كان ذلك ضد أنفسهم أو والديهم أو أقاربهم (كما في سورة النساء، الآية 135). هذا التأكيد على إقامة القسط والعدل يشكل العمود الفقري لرؤية الإسلام للمسائل الاجتماعية والقانونية، ويدل على أن نفي الظلم والسعي لإقامة العدل هو واجب شرعي وأخلاقي لا يمكن التغاضي عنه. المجتمع الذي يبقى فيه الظلم قائمًا ولا يقوم أحد ضده، قد انحرف عن مساره الإلهي. ومع ذلك، تصبح المسألة معقدة عندما نناقش "التحمل". هل "التحمل" يعني "الصمت المطلق" و "القبول بالظلم"؟ لا. في العديد من الحالات، يعني الصبر والتحمل في القرآن "الثبات" و "المقاومة السلبية" و "المثابرة" و "عدم اليأس"، بدلاً من الاستسلام. على سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 153، نقرأ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". هذا الصبر هو صبر فعال يساعد المؤمن في صراعه ضد المصاعب والظلم لتحقيق هدفه، ويمنحه القدرة على مقاومة الضغوط وإحباط خطط الظالم. هذا النوع من الصبر هو في حد ذاته نوع من الكفاح، كفاح هادئ ومتأصل يمهد الطريق للنصر. في ظروف خاصة معينة، قد تؤدي المواجهة المباشرة والعنيفة للظلم، بدلاً من حل المشكلة، إلى أضرار وخسائر أكبر بكثير تتجاوز الظلم الأولي. هنا، يأتي مفهوم "دفع الضرر الأكبر بتحمل الضرر الأصغر". هذا المبدأ الفقهي والعقلي ينص على أنه إذا أدى عمل ثوري أو مواجهة مباشرة إلى قتل الأبرياء، أو دمار واسع النطاق للبنية التحتية، أو إضعاف الدين والمجتمع الإسلامي إلى حد لا يمكن إصلاحه، فإن التوقف والتأمل، أو إيجاد طرق بديلة (مثل المقاومة المدنية، أو حملات التوعية العامة، أو تشكيل جبهة مقاومة)، أو حتى التحمل المؤقت لإيجاد فرص أفضل وتقليل الضرر، قد يكون أفضل من منظور "الحكمة" و "المصالح الإسلامية العليا". هذا التحمل لا يعني القبول الدائم بالظلم، بل هو استراتيجية مؤقتة لمنع كارثة أكبر ولخلق ظروف لمواجهة أكثر فعالية في المستقبل. يقدم التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية الشريفة أمثلة واضحة لهذا النهج. فقد واجه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أفعالًا لا حصر لها من الظلم والتعذيب خلال السنوات الثلاث عشرة الأولى من رسالته في مكة. فبدلاً من المواجهة العسكرية المباشرة (التي كانت ستعني في ذلك الوقت الإبادة الكاملة للمجتمع الإسلامي الناشئ ولن تسفر عن نتائج إيجابية)، استخدم هو وأصحابه "الصبر الاستراتيجي". تضمن هذا الصبر الثبات على العقيدة، والالتزام بالمبادئ دون مساومة، والهجرة إلى الحبشة، وفي النهاية، الهجرة إلى المدينة. هذه الهجرة بحد ذاتها كانت شكلاً من أشكال الكفاح وتغييرًا في الاستراتيجية. في المدينة، عندما توفرت القوة والبيئة المناسبة وأصبح المجتمع الإسلامي قويًا عسكريًا واجتماعيًا، انخرط في مواجهة عسكرية مع ظلم قريش. يوضح هذا المثال بوضوح أن التحمل أحيانًا (بمعنى استراتيجي ومؤقت) وعدم الانخراط في مواجهة تؤدي إلى أضرار لا يمكن إصلاحها وبدون جدوى ليس علامة على الضعف، بل هو قمة الحكمة والبصيرة. علاوة على ذلك، يجب التمييز بين "الظلم الفردي" و "الظلم المنهجي والواسع النطاق". فيما يتعلق بالظلم الفردي الذي يلحق بشخص معين، يقدم القرآن أيضًا حل "العفو والصفح" (سورة الشورى، الآية 40: "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"). يوصى بهذا العفو، إذا لم يؤدِّ إلى تشجيع الظالم ولم يعرض المصلحة العامة للخطر، ويمكن أن يؤثر حتى في قلب الظالم ويساعد في إصلاحه. ومع ذلك، فإن هذا النهج عادة ما لا ينطبق على الظلم المنهجي والواسع النطاق الذي ينتهك حقوق عدد كبير من الناس، حيث تكون المواجهة وجهود تغيير الهيكل الظالم ضرورية، ويجب عدم التهرب من المسؤولية الاجتماعية والدينية بحجة العفو والصفح. في الختام، تعتمد الإجابة على هذا السؤال على الظروف الخاصة، ونوع الظلم، ومدى قدرة المواجه، وأبعاد وعمق الظلم، والعواقب المحتملة. لا يدعو الإسلام أبدًا إلى الاستسلام للظلم، بل ينصح المؤمنين باختيار أفضل وأكثر الطرق فعالية لمكافحة الظلم وإقامة العدل بالحكمة والبصيرة والصبر. قد يتضمن هذا المسار أحيانًا مقاومة ناعمة، أو رفع الوعي، أو الكشف عن الحقائق، أو حتى الهجرة، وفي أحيان أخرى قد يتطلب مواجهة مباشرة ودفاعًا مشروعًا. ما يهم هو النية الخالصة لوجه الله تعالى والسعي لإقامة العدل في الأرض، بطريقة تحقق أقل ضرر وأكبر فائدة للبشرية. لذلك، فإن "تحمل الظلم" لا يعني السلبية والصمت المطلق في مواجهته، بل يعني اختيارًا ذكيًا واستراتيجيًا للمسار الأكثر فعالية لمواجهته، حتى لو بدا هذا المسار في المدى القصير يتطلب المزيد من التحمل والصبر لتحقيق النتيجة المرجوة على المدى الطويل. يضمن هذا النهج أن الكفاح ضد الظلم لن يكون عادلاً فحسب، بل سيكون فعالاً ومستدامًا أيضًا، وبدلاً من إثارة فتنة أكبر، سيمهّد الطريق لإقامة العدل والسلام الحقيقي.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في أحد الأيام، قال درويش لنفسه: "جودة الخلق أفضل من قوة الذراع." وتذكر قول سعدي: "من لا يملك ثوبًا لنفسه، فخير له أن يكون عارياً من أن يرتدي ثوب سارق." كان درويش يسير في طريق، وظُلم عليه. فبدلاً من أن ينهض للمواجهة فوراً ويُظهر غضبه، صمت الدرويش وواصل طريقه. سأله رفاقه: "يا شيخ، لمَ سكتت أمام الظلم الذي لحق بك؟" أجاب الدرويش: "من الأفضل أن أحمل قليلاً في قلبي اليوم وأُنجي نفسي من نار أكبر. لو اشتبكت مع هذا الظالم الآن، لما عرضت نفسي للخطر فحسب، بل ربما نشأت فتنة أكبر تلحق الضرر بالخلق. الحكيم هو من يرى العواقب، ويدرك أن الصبر أحيانًا هو عين المعركة، معركة خفية لفرصة أفضل وطريق أوسع." تعلّم رفاقه درسًا من كلامه وأدركوا أن الصبر ليس دائمًا علامة ضعف، بل هو أحيانًا ذروة الحكمة وبعد النظر.

الأسئلة ذات الصلة