لم يذكر القرآن التكنولوجيا صراحة، ولكن مبادئه العامة كالاعتدال، وتجنب الإسراف والغفلة، والتأكيد على المسؤوليات الاجتماعية، تقدم تحذيرات غير مباشرة ضد الإفراط في أي شيء، بما في ذلك استخدام التكنولوجيا. لذا، فإن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا الذي يؤدي إلى إهمال الواجبات، وإضاعة الوقت، والإضرار بالعلاقات الإنسانية، يُدان ضمنياً بتعاليم القرآن.
القرآن الكريم، الذي أنزل قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، لم يذكر بطبيعة الحال كلمة 'التكنولوجيا' أو الأجهزة الرقمية ووسائل الاتصال الحديثة بشكل مباشر. ولكن ما طرحه هذا الكتاب السماوي بعمق لا نظير له هو مجموعة شاملة من المبادئ الأخلاقية والتربوية وأنماط الحياة التي يمكن تطبيقها على كل جانب من جوانب الوجود البشري، بما في ذلك كيفية تفاعلنا مع التطورات العلمية والتكنولوجية. في الواقع، يقدم القرآن، من خلال تناول مفاهيم عامة وشاملة، تحذيرات ترتبط بشكل غير مباشر، ومن خلال الاستنباط، بالإفراط في أي أمر، بما في ذلك استهلاك التكنولوجيا. من أهم المبادئ التي يؤكد عليها القرآن هو مبدأ 'الاعتدال' و'الوسطية'. فالله تعالى يدعو الإنسان في آيات عديدة إلى تجنب الإفراط والتفريط في جميع الأمور. فالإفراط في أي شيء، سواء في الأكل والشرب، أو في الترفيه والتسلية، أو حتى في العمل والعبادة، هو أمر مذموم. عندما نعمم هذا المبدأ على استهلاك التكنولوجيا، ندرك أن الانغماس بلا حدود في العالم الافتراضي، أو ألعاب الكمبيوتر، أو وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن أن يكون مصداقاً واضحاً للإفراط. هذا النوع من الإفراط لا يقلل فقط من الجوانب المادية لحياة الفرد (مثل الإنتاجية والصحة)، بل يؤثر بعمق على أبعاده الروحية والاجتماعية أيضاً. يقول تعالى في سورة الأعراف، الآية 31: "...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ". هذه الآية، وإن كانت ظاهرياً تتحدث عن الأكل والشرب، فإن رسالتها العامة هي تجنب أي شكل من أشكال الإسراف والتبذير، والتي يمكن أن تشمل بوضوح الإسراف في الوقت، والطاقة، والصحة النفسية، وحتى العلاقات الاجتماعية نتيجة الإفراط في استخدام التكنولوجيا. علاوة على ذلك، يحذر القرآن بشدة من 'الغفلة' والابتعاد عن ذكر الله. فحياة الإنسان في المنظور القرآني هي فرصة ثمينة للتحرك نحو الكمال والتقرب الإلهي. وأي عامل يحرف الإنسان عن هذا المسار الرئيسي ويجعله غافلاً عن الهدف الأسمى للخلق، فهو أمر مذموم. والإفراط في استهلاك التكنولوجيا، خاصة عندما يؤدي إلى إضاعة الوقت الثمين، وإهمال الواجبات الدينية والأخلاقية، والابتعاد عن الأهل والمجتمع، هو بوضوح مصداق للغفلة. فالإنسان الذي يقضي ساعات طويلة في العالم الافتراضي قد ينشغل عن الصلاة، وتلاوة القرآن، والتواصل مع الأقارب، وحتى الاهتمام بصحته الجسدية. يقول تعالى في سورة طه، الآية 124: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ". هذه الآية تحذير جاد من أي شيء يبعد الإنسان عن محور ذكر الله، وفي العصر الحديث، يُعد الإفراط في التكنولوجيا أحد أقوى عوامل هذه الغفلة. إن مسألة 'الإسراف' لا تقتصر على المال فحسب، بل تمتد لتشمل النعم الإلهية الأخرى مثل الوقت، والصحة، والقدرات العقلية، وحتى فرص الحياة. فالتكنولوجيا هي أداة يمكن استخدامها للنمو والرقي وخدمة البشرية. ولكن إذا تم استخدامها بشكل مفرط وغير مجدٍ، فإنها تتحول إلى تبذير لهذه النعم. وفي سورة الإسراء، الآية 27، يصف الله المسرفين بأنهم إخوان الشياطين: "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا". هذا التعبير يدل على أن الإسراف والتبذير هو فعل مذموم ويتماشى مع وساوس الشيطان التي تبعد الإنسان عن طريق الحق. فالإهدار المفرط للوقت على وسائل التواصل الاجتماعي، أو الألعاب عديمة الهدف، أو استهلاك المحتوى غير المجدي، كل ذلك يمكن أن يندرج ضمن نطاق هذا الإسراف. إضافة إلى ذلك، يؤكد القرآن بشدة على أهمية 'العلاقات الإنسانية' و'المسؤوليات الاجتماعية'. فالتواصل مع الأسرة، وصلة الرحم، والإحسان إلى الجار، والاهتمام بقضايا المجتمع هي من الأوامر الأساسية في الإسلام. والإفراط في استخدام التكنولوجيا يمكن أن يؤدي إلى العزلة، وتقليل التفاعلات الحقيقية، وضعف الروابط الاجتماعية. فكثير من الأفراد، بسبب انغماسهم في الفضاء الافتراضي، يغفلون عن العالم الحقيقي واحتياجاته، وهذا يتعارض بوضوح مع روح تعاليم القرآن. فالقرآن يعلمنا أن نكون دائماً خيّرين ومفيدين للمجتمع وأن نتجنب العزلة واللامبالاة. وفي سورة القصص، الآية 77 نقرأ: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ". هذه الآية تعلمنا أنه يجب أن نوازن بين حياة الدنيا والآخرة وأن نستغل إمكانيات الدنيا في سبيل الصلاح والخير، لا أن نجعلها وسيلة للعزلة والتهرب من المسؤوليات. في الختام، يمكن القول أنه بالرغم من أن القرآن لم يذكر 'التكنولوجيا' صراحة، إلا أنه من خلال طرح مبادئ عالمية مثل الاعتدال، وتجنب الإسراف والغفلة، والتأكيد على المسؤوليات الفردية والاجتماعية، يقدم تحذيرات قوية بشأن أي نوع من الإفراط، بما في ذلك الإفراط في استخدام التكنولوجيا. هذه التعاليم تساعد الإنسان على استخدام التكنولوجيا كأداة للنمو، والتواصل المفيد، وزيادة المعرفة، بدلاً من أن يصبح أسيراً لها وينحرف عن المسار الصحيح للحياة.
يُروى أن في الأزمنة القديمة، كان هناك ملك يستمتع بامتلاك الأدوات والآلات المختلفة، وكان يقضي معظم وقته في جمعها وفحصها، من السيوف الثمينة إلى الأجهزة الغريبة. ذات يوم، جاء إليه درويش حكيم. أظهر الملك أدواته بفخر. فقال الدرويش بابتسامة لطيفة: "يا ملك، هذه الأدوات مثل خدمك. ولكن إذا استغرقت كل وقتك واهتمامك، فستصبح عبداً لها. فالوقت جوهرة نادرة، إذا أُهدرت فيما لا نفع فيه، تركت ندماً أبدياً." استمع الملك إلى هذه النصيحة ومنذ ذلك الحين، قسّم وقته باعتدال بين الأدوات المفيدة وواجباته الأساسية، متذكراً أن كل أداة، مهما كانت رائعة، يجب أن تخدم الإنسان، لا أن تمنعه عن الهدف الحقيقي لحياته.