باستلهام من القرآن، تُبنى الهوية الرقمية الصحية على الصدق، المسؤولية، القول الحسن والاعتدال. هذا يعني عكس الشخصية الحقيقية، تجنب الكذب والغيبة، واستخدام الفضاء الرقمي بفعالية.
في العصر الحديث، حيث تتشابك حياتنا بشكل متزايد مع العالم الرقمي، أصبح بناء «هوية رقمية صحية» أمرًا بالغ الأهمية. هذه الهوية هي انعكاس لشخصيتنا وقيمنا وتفاعلاتنا في الفضاء الافتراضي، وتشمل ملفاتنا الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، والتعليقات، والمحتوى الذي ننشئه، وكل بصمة رقمية نتركها وراءنا. على الرغم من أن القرآن الكريم لا يتحدث مباشرة عن «الهوية الرقمية»، إلا أن مبادئه وتعاليمه الشاملة تمثل نورًا هاديًا لكل جانب من جوانب الحياة، بما في ذلك سلوكنا ووجودنا في الفضاء الإلكتروني. من خلال الاستلهام من تعاليم القرآن، يمكننا تشكيل هويتنا الرقمية بطريقة لا تعود بالنفع علينا فحسب، بل تجلب الخير والبركة للمجتمع أيضًا، وتنال رضا الله تعالى. أول وأهم مبدأ قرآني في بناء هوية رقمية صحية هو «الصدق والإخلاص». في القرآن الكريم، يأمر الله المؤمنين مرارًا وتكرارًا بالصدق والابتعاد عن الكذب والخداع. تبدأ الهوية الرقمية الصحية بتجنب التظاهر أو المبالغة أو إنشاء شخصية زائفة. هذا يعني تقديم أنفسنا الحقيقية، وليس نسخة مثالية وغير واقعية. يجب أن تكون الملفات الشخصية والصور والمعلومات التي نشاركها انعكاسًا لحقيقتنا. إن الخداع والنفاق في الفضاء الرقمي، تمامًا كما في العالم الحقيقي، مذموم ويمكن أن يؤدي إلى عدم الثقة وإلحاق الضرر بالعلاقات. يقول الله تعالى في سورة التوبة، الآية 119: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»، تذكرنا هذه الآية بأن الصدق ليس مجرد سمة أخلاقية، بل هو واجب إلهي يجب مراعاته في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك التفاعلات عبر الإنترنت. المبدأ الثاني هو «الشعور بالمسؤولية والوعي بعواقب الأفعال». في الفضاء الرقمي، قد ينشأ وهم بأن أفعالنا لا تحمل عواقب، لكن القرآن يعلمنا أن كل عمل، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، سيُسجل ويُحاسب عليه. يقول الله تعالى في سورة الزلزلة، الآيتين 7 و 8: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ». تؤكد هذه الآيات أن لا شيء من أعمالنا يبقى خفيًا، وبصمتنا الرقمية ليست استثناءً لهذه القاعدة. كل منشور، وكل إعجاب، وكل تعليق، وكل محتوى نشاركه يشكل جزءًا من هويتنا الرقمية ويمكن أن يكون له آثار طويلة الأمد. لذلك، فإن المسؤولية في اختيار المحتوى والنبرة والرسالة التي ننشرها أمر بالغ الأهمية. يجب أن نسأل أنفسنا: هل هذا المحتوى بناء؟ هل يضر بالآخرين؟ هل يشوه سمعة أحد؟ هل يضيع وقتي؟ هذا التفكير النقدي في وجودنا على الإنترنت يحمينا من الأخطاء ويمنعنا من إنشاء هوية رقمية سلبية. المبدأ الثالث المهم هو «القول الحسن والابتعاد عن الغيبة والنميمة والكلام الباطل». يتحول الفضاء الإلكتروني أحيانًا إلى منصة للعدوان ونشر الشائعات وانتهاك الحرمات. ينهى القرآن بشدة عن هذا النوع من السلوك. جاء في سورة الحجرات، الآية 12: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَیُحِبُّ أَحَدُکُم أَن یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتًا فَکَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِیمٌ». تنهانا هذه الآية بوضوح عن الغيبة والتجسس، والتي في العالم الرقمي يمكن أن تظهر على شكل نشر معلومات خاصة بالآخرين أو التحدث بالسوء عنهم. يجب أن تكون هويتنا الرقمية رمزًا للأدب والاحترام وتعزيز الحوار الصحي. يجب أن نسعى جاهدين لتكون تعليقاتنا بناءة، لا مدمرة. يجب أن نمتنع عن نشر الأخبار الكاذبة والشائعات، وبدلاً من ذلك، نروج للحق والصدق. المبدأ الرابع هو «الاعتدال وتجنب الإفراط والتفريط في الوجود على الإنترنت». مثل أي نعمة أخرى، فإن الاستخدام المفرط والزائد للفضاء الرقمي يمكن أن يؤدي إلى الإدمان والعزلة والإهمال للواجبات الحقيقية في الحياة. ينصحنا القرآن بأن نلتزم بالاعتدال في جميع الأمور ونتجنب الإسراف والتبذير. الإدارة الذكية للوقت وتجنب قضاء ساعات طويلة بلا هدف في الفضاءات الافتراضية، جزء مهم من بناء هوية رقمية صحية. هذا يعني إدارة الوقت، وتحديد الأولويات، واستخدام الأدوات الرقمية للنمو الشخصي والتواصل المفيد، وليس للهروب من الواقع أو التسلية العقيمة. يمكننا استخدام الفضاء الرقمي لاكتساب المعرفة، ومشاركتها، والتواصل مع الصالحين، وأداء الأعمال الخيرية. وبذلك، نحول هويتنا الرقمية إلى أداة مفيدة ومثمرة. في الختام، من خلال الالتزام بهذه المبادئ القرآنية - الصدق، والمسؤولية، والقول الحسن، والاعتدال - يمكننا بناء هوية رقمية لا تحافظ على مصداقيتنا واحترامنا في العالم الافتراضي فحسب، بل تمكننا أيضًا من نقل رسائل إيجابية وإلهية إلى الآخرين، وإحداث تأثير بناء في المجتمع عبر الإنترنت. ستكون هذه الهوية انعكاسًا لإيماننا وتجليًا للأخلاق القرآنية في العصر الرقمي.
يُروى أن حكيمًا قال لتلاميذه ذات يوم: «يا أبنائي، في كل عمل تقومون به، سواء في العلن أو في السر، كونوا وكأن جميع الناس وجميع الملائكة والله نفسه شهود ومراقبون لأفعالكم.» سأل أحد التلاميذ: «يا حكيم، كيف يمكننا أن نكون هكذا، بينما الكثير من أفعالنا تتم في الخلوة؟» ابتسم الحكيم وقال: «أليس صحيحًا أن كل كلمة تنطقون بها وكل فعل تقومون به يُسجل في دفتر؟ في عالمكم اليوم، كل كلمة تكتبونها في الفضاء الافتراضي وكل صورة تشاركونها هي بمثابة نقش يبقى إلى الأبد، وعاجلاً أم آجلاً سترون انعكاسها. فاسعوا لأن يكون اسمكم وعلامتكم، سواء في العالم الحقيقي أو الافتراضي، رمزًا للصدق وحسن القول والأدب، فكلما كنتم محسنون، تركتم اسمًا حسنًا وهوية حسنة.» لقد كانت هذه النصيحة الحكيمة كالنور الذي أضاء طريق التلاميذ في عالم سُمي لاحقًا بـ«الرقمي».