يتحقق البقاء ذا أخلاق في عالم مليء باللاأخلاقية بتقوية التقوى، والصبر والاستقامة، والأمر بالمعروف، والاتصال المستمر بالله. باختيار الرفقة الصالحة والتركيز على الآخرة، يمكن للمرء الحفاظ على النزاهة الأخلاقية والمساهمة في تحسين المجتمع.
في عالم يواجه تحديات أخلاقية جديدة كل يوم، وحيث يبدو أحيانًا أن القيم الإنسانية والروحية تتلاشى، يصبح الاهتمام بالأخلاق أكثر أهمية من أي وقت مضى. القرآن الكريم، بصفته كلام الوحي الإلهي، يقدم خريطة طريق شاملة لحياة البشر، حيث يكون الحفاظ على الأخلاق والارتقاء الروحي ممكنًا تمامًا في جميع الظروف، حتى في البيئات المليئة باللاأخلاقية. تستند هذه الخريطة إلى أسس متينة من الإيمان، والتقوى، والصبر، والتوكل، والعمل الصالح. المبدأ الأول والأساسي للبقاء ذا أخلاق في مثل هذه البيئة هو "التقوى" أو الخوف من الله والورع. التقوى لا تعني فقط الخوف من عقاب الله، بل تشمل أيضًا الشعور الدائم بحضور الله، ومحبته، والرغبة في كسب رضاه. عندما يصل الإنسان إلى هذا الاعتقاد العميق بأن الله يراقبه في كل لحظة وأن جميع أعماله تسجل، يجد دافعًا قويًا لتجنب المعاصي والالتزام بالمبادئ الأخلاقية. يقول الله تعالى في سورة آل عمران، الآية 102: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ"؛ هذه الآية تدل على أن التقوى يجب أن تصل إلى أقصى درجاتها وتكون حالة دائمة في الحياة. تعمل هذه الحالة من التقوى كدرع واقٍ، يحمي الإنسان من الإغراءات والضغوط البيئية التي قد تؤدي إلى الانحراف عن المسار الأخلاقي. عندما تضيء نفس الإنسان بنور التقوى، تتقوى لديه القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، وتصبح القرارات الأخلاقية أكثر سهولة. التقوى ليست مجرد حالة داخلية، بل تشكل أيضًا السلوكيات الخارجية، وتحصن الفرد بفعالية ضد الفساد الأخلاقي في المجتمع. المبدأ الثاني هو "الصبر والاستقامة". في طريق التزام الأخلاق، خاصة في مجتمع قد ينجرف العديد من أفراده نحو اللاأخلاقية، قد يواجه الإنسان صعوبات، وسخرية، أو حتى ضغوطًا للتكيف مع الجماعة. لقد أكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على أهمية الصبر. في سورة هود، الآية 112، يقول الله تعالى: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ"؛ هذه الآية لا توصي النبي (ص) فحسب، بل جميع المؤمنين بأن يكونوا ثابتين وراسخين على طريق الحق. الصبر على الشدائد، والمقاومة ضد الإغراءات، وتحمل الصعوبات الناجمة عن الالتزام بالمبادئ الأخلاقية، هي من أهم عوامل الحفاظ على الأخلاق. بدون الصبر، قد ينحرف الإنسان عن المسار الصحيح عند مواجهة الضغوط الخارجية وينقاد بسهولة لموجات اللاأخلاقية. الاستقامة تعني ألا تتخلى عن مبادئك حتى عندما تبدو وحيدًا. ثالثًا، "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي يلعب دورًا نشطًا في الحفاظ على الصحة الأخلاقية للمجتمع، وبالتالي على أخلاق الفرد. يقول القرآن الكريم في سورة آل عمران، الآية 104: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"؛ هذه المسؤولية الاجتماعية لا تساهم فقط في تحسين حالة المجتمع، بل بتقوية حس المسؤولية في الفرد، تثبت الفرد في مساره الأخلاقي. عندما يرى الإنسان نفسه ملزمًا بنشر الخير ومواجهة الشر، فإنه مضطر أولاً إلى العمل بما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه. هذه عملية تعزيز متبادل تربط الأخلاق الفردية بالمسؤولية الاجتماعية وتجعل الفرد مقاومًا لإغراءات اللامبالاة والتقاعس. رابعًا، "ذكر الله وإقامة الصلاة". في عالم صاخب ومليء بالجاذبية المادية، يمكن لقلب الإنسان أن يقع بسهولة فريسة للغفلة والإغراء. ذكر الله والتواصل المستمر معه من خلال الصلاة، يمنح القلب الطمأنينة ويطهره من الشوائب. فالصلاة، باعتبارها عماد الدين، تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، كما ورد في سورة العنكبوت، الآية 45: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ"؛ هذا الاتصال اليومي بالخالق يساعد الإنسان على عدم نسيان الهدف الأساسي للحياة ومقاومة بريق الدنيا الزائل، واتخاذ قرارات تستند إلى القيم الإلهية، لا إلى الرغبات العابرة. خامسًا، "اختيار الصحبة الصالحة والبيئة المناسبة". إن تأثير البيئة والأصدقاء على أخلاق الإنسان لا يمكن إنكاره. يشير القرآن الكريم بشكل غير مباشر إلى هذا الأمر، عندما يدعو المؤمنين إلى الابتعاد عن مجالس المعصية والباطل. في سورة النساء، الآية 140 يقول: "...فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۙ إِنَّكُمْ إِذًا مِّنْهُمْ..."؛ على الرغم من أن هذه الآية تتحدث عن الجلوس مع المستهزئين بآيات الله، إلا أنه يمكن استنتاج مبدأ عام منها وهو أن الجلوس مع الأشخاص اللاأخلاقيين يمكن أن يؤدي تدريجيًا إلى انحراف الإنسان نحو نفس الاتجاه. لذا، فإن اختيار الأصدقاء والبيئات التي تدعم القيم الأخلاقية بوعي أمر في غاية الأهمية. البيئة السليمة والرفقة الصالحة تساعد الإنسان في مسار الأخلاق وتمنعه من الانزلاق. سادسًا، "التفكير في الآخرة وجزاء الأعمال". في عالم يسعى فيه الكثيرون وراء المصالح العاجلة واللذات الفورية، فإن تذكير الإنسان بأن الحياة الدنيا مؤقتة وأن الحياة الحقيقية هي في الآخرة، يساعده على اتخاذ قرارات أكثر أخلاقية. في سورة فصلت، الآية 18 جاء: "ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِینَ فِیهَا جِثِیًّا"؛ هذا التوجه نحو الآخرة يمنح الإنسان دافعًا قويًا للالتزام بالأخلاق والامتناع عن الذنوب، حتى لو واجه صعوبات في الدنيا أو تعرض للسخرية. تزيد هذه الرؤية من مقاومة الفرد الداخلية ضد جاذبية الدنيا الزائلة، وتبقي الهدف النهائي للحياة حيًا في ذهنه باستمرار. باختصار، إن البقاء ذا أخلاق في عالم مليء باللاأخلاقية يتطلب نهجًا شاملاً ومستدامًا، جذوره تكمن في تعاليم القرآن الكريم. يتحقق ذلك من خلال تقوية التقوى الإلهية، وممارسة الصبر والاستقامة، والقيام بدور فعال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفاظ على الاتصال بالله من خلال الصلاة والذكر، واختيار الصحبة والبيئة المناسبة بوعي، وأخيرًا، تذكر دائمًا المعاد والهدف الأسمى للخلق. هذه المبادئ لا تساعد الفرد فقط على البقاء في المسار الصحيح، بل تحوله أيضًا إلى عنصر فاعل لإصلاح وتحسين المجتمع. وبالعمل بهذه التعاليم، يمكن للإنسان أن يكون كالنور في الظلام، يهدي الآخرين، ويظل هو نفسه في حماية اللطف الإلهي من الأضرار الأخلاقية، ويختبر حياة مليئة بالسكينة والرضا الإلهي.
يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، في مدينة صاخبة غارقة في شؤون الدنيا، عاش رجل حكيم وذو سيرة حسنة. كان أهل المدينة يتجهون يوماً بعد يوم نحو المكاسب الزائلة وزخارف الدنيا، مبتعدين عن صراط الأخلاق المستقيم. كانوا ينكثون العهود، والكذب والخداع، كالأعشاب الضارة، ينمو في حديقة حياتهم. لكن هذا الرجل الحكيم، على الرغم من أنه كان بإمكانه جني أرباح طائلة بمجاراته للناس، لم ينحرف قط عن طريقه المستقيم والنقي. في أحد الأيام، قال له تاجر ثري من المدينة، كان هو نفسه غارقًا في وحل اللاأخلاقية، بسخرية: "يا شيخ، في هذا الزمان الذي لا يفكر فيه الجميع إلا في ملء جيوبهم، لماذا بقيت نقياً وبريئاً هكذا، كحمامة الحرم؟ ألا تخشى الفقر والعوز؟" ابتسم الرجل الحكيم وقال: "أيها التاجر، أنت تملأ جيبك بالذهب، وأنا أملأ قلبي بنور الإيمان. أنت تفكر فيما تتركه في الدنيا، وأنا أفكر فيما آخذه معي إلى الدار الباقية. على الرغم من أن المدينة مليئة برائحة النفاق والخداع، إلا أن الرائحة الطيبة للصدق والحق تسري دائمًا في خلوة قلبي. وما ضرّ الذي سلم سفينته للربان من أمواج البحر الهائجة؟ قلوبنا ثابتة بفضل وعناية إلهية، ونحن نعلم أن اللاأخلاقية، مهما كانت جذابة في ظاهرها، ليس لها نهاية سوى الهلاك. وإن بقيت وحيداً، فلن أتخلى عن الطريق الصحيح، فالسكينة الحقيقية تكمن في الالتزام بالمبادئ، لا في مجاراة الضالين." فكر التاجر في هذه الكلمات وأدرك أن الرجل يمتلك كنزاً أثمن بكثير من كل أموال الدنيا. وهكذا فإن البقاء ذا أخلاق، حتى في خضم اللاأخلاقية، ليس ممكناً فحسب، بل يجلب السكينة والسعادة الحقيقية.