القرآن، بتأكيده على مسؤولية الإنسان، والعدل، وتقديم النفع للخلق، والاعتدال، وأهمية العلم المقترن بالأخلاق، يقدم إرشادًا شاملاً لتفاعلنا مع الذكاء الاصطناعي لضمان استخدام هذه التكنولوجيا في سبيل الخير والرخاء البشري.
في عالم اليوم الذي يتقدم فيه الذكاء الاصطناعي (AI) بسرعة ويتكامل في جميع جوانب حياتنا، يطرح السؤال: كيف يمكننا إدارة هذه التكنولوجيا القوية وتوجيهها بناءً على المبادئ والقيم الإلهية؟ القرآن الكريم، وإن لم يشر مباشرة إلى الذكاء الاصطناعي، إلا أنه غني بالمبادئ والقيم والتوجيهات الأخلاقية التي يمكن أن توفر إطارًا شاملاً لتفاعلنا مع هذه الظاهرة الحديثة. هذه التوجيهات تساعدنا على استخدام الذكاء الاصطناعي ليس فقط كأداة للتقدم المادي، بل كوسيلة لتحقيق الأهداف الإنسانية والإلهية السامية. أحد أهم المبادئ التي يؤكد عليها القرآن هو مسؤولية الإنسان وخلافته (خلیفة الله). لقد جعل الله الإنسان خليفته ونائبه في الأرض. هذا الموقع يلقي على عاتق الإنسان مسؤولية جسيمة تشمل إعمار الأرض، وإقامة العدل، والاستخدام الصحيح للنعم والقدرات. الذكاء الاصطناعي، كواحد من أحدث الإنجازات الفكرية للبشرية، يندرج تحت هذه المسؤولية. يجب على مطوري ومستخدمي الذكاء الاصطناعي أن يضعوا في اعتبارهم دائمًا أن أفعالهم، سواء في تصميم الذكاء الاصطناعي أو استخدامه، تحمل مسؤولية دنيوية وأخروية. هل الذكاء الاصطناعي الذي نبنيه يساعد على العدل أم يغذي التمييز؟ هل يؤدي إلى صلاح المجتمع أم يوفر أرضية للفساد؟ هذه أسئلة تتجذر في مفهوم المسؤولية القرآنية. تشير سورة البقرة، الآية 30، بوضوح إلى دور الإنسان كخليفة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..." هذه الآية تشكل أساس النظرة المسؤولة لأي إنجاز بشري، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي. المبدأ الثاني، العدل وتجنب الظلم. لقد أكد القرآن الكريم مرارًا على إقامة العدل والقسط وذم الظلم بشدة. في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، يكتسب هذا المبدأ أهمية قصوى. يجب تصميم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بحيث تعمل بعدل وتكون خالية من أي تمييز عنصري، أو جنسي، أو اقتصادي، أو اجتماعي. استخدام بيانات متحيزة أو تصميم نظام يعمل لصالح مجموعة معينة هو مثال على الظلم والفساد في الأرض الذي ينهى عنه القرآن. تقول الآية 8 من سورة المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ..." هذه الآية تدعونا بوضوح إلى إقامة القسط والعدل، حتى لو كان تجاه الخصوم، وهو ما يشمل أنظمة الذكاء الاصطناعي أيضًا. ثالثًا، الإحسان وتقديم النفع للخلق. يجب أن يكون الهدف الأساسي لأي نشاط بشري من منظور قرآني هو تحقيق الخير والنفع للبشر. يجب أن يكون الذكاء الاصطناعي في خدمة البشرية وأن يحل مشاكل مثل الأمراض والفقر والتعليم والبيئة. لا ينبغي أن تصبح هذه التكنولوجيا أداة للمراقبة الواسعة النطاق، أو السيطرة على المجتمعات، أو إحداث أضرار نفسية واجتماعية. أي استخدام للذكاء الاصطناعي يضر بالصحة الجسدية أو النفسية للبشر، أو بكرامة الإنسان، يتعارض مع هذا المبدأ القرآني. في سورة الرحمن، تشير عدة آيات إلى نعم الله وأهمية الاستفادة منها للخير والصلاح، وهو ما يمكن تعميمه على الاستخدام الصحيح للتكنولوجيا. يدعو القرآن البشر إلى فعل الخير والعمل الصالح، وبالتأكيد، استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض الخير والصلاح للبشرية سيكون أحد مصاديق هذا العمل الصالح. رابعًا، الحدود الإلهية وتجنب الإفراط والتفريط. يدعو القرآن الكريم الإنسان دائمًا إلى مراعاة الحدود والاعتدال في جميع الأمور. في تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي، يجب الأخذ بهذا المبدأ في الاعتبار. على سبيل المثال، لا ينبغي عبادة الذكاء الاصطناعي أو منحه قوة مطلقة إلى حد يخرج عن سيطرة الإنسان أو يزعزع المكانة السامية للإنسان ككائن حر وعقلاني. ومن ناحية أخرى، لا ينبغي إهمال إمكاناته الفريدة في الاتجاه الإيجابي. إن إيجاد التوازن بين الاستخدام الأمثل وعدم تجاوز الخطوط الحمراء الأخلاقية والإنسانية هو أحد النقاط الرئيسية التي يشير إليها القرآن. تقول الآية 77 من سورة القصص: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ." هذه الآية توجهنا إلى الاعتدال في الاستفادة من نعم الدنيا وعدم الفساد في الأرض، وهو ما ينطبق أيضًا على استخدام الذكاء الاصطناعي. أخيرًا، الاهتمام بالمعرفة والبصيرة (العلم والحكمة). لقد أكد القرآن مرارًا على أهمية العلم والتفكر والتعقل. الذكاء الاصطناعي نفسه هو نتاج العلم والمعرفة البشرية. يشجعنا القرآن على السعي وراء المعرفة واستخدامها لفهم العالم وتحسين الحياة، ولكنه يذكرنا دائمًا بأن العلم الحقيقي يجب أن يقترن بالإيمان والحكمة. يمكن أن يؤدي العلم بدون أخلاق وروحانية إلى الدمار. لذلك، يجب أن يكون تطوير الذكاء الاصطناعي مصحوبًا ببصيرة عميقة لنتائجه، ويجب أن يتمتع علماء ومهندسو الذكاء الاصطناعي، إلى جانب خبرتهم الفنية، بفهم أخلاقي وروحي عميق. آيات عديدة مثل الآية 9 من سورة الزمر: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" والآية 28 من سورة فاطر: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" تؤكد على أهمية العلم والمعرفة، ولكن العلم الذي يؤدي إلى خشية الله والتقوى. خلاصة القول، يقدم القرآن الكريم، من خلال تأكيده على مسؤولية الإنسان، وضرورة إقامة العدل، وتقديم النفع للخلق، ومراعاة الاعتدال، وأهمية العلم المقترن بالأخلاق، إطارًا مستقرًا وإلهيًا لتفاعلنا مع الذكاء الاصطناعي. تساعدنا هذه التوجيهات على تحويل الذكاء الاصطناعي إلى أداة لبناء عالم أفضل وأكثر عدلاً وإنسانية، والاستفادة منه في سبيل كمال وسعادة البشرية، لا في سبيل الفساد والهلاك. يمثل هذا النهج القرآني ضمانًا للاستفادة من هذه التكنولوجيا في تعزيز مكانة الإنسان والاقتراب من الأهداف الإلهية.
في گلستان سعدي، يُروى أن ملكًا كلف مهندسًا معماريًا بارعًا ببناء قصر لا مثيل له. قام المهندس، بأقصى درجات المعرفة والدقة، ببناء صرح أذهل كل من رآه. لكن الملك لم يكافئه وقال: "أرى أن بنائك مكتمل، ولكن انظر جيدًا هل أسسه مبنية على العدل والنوايا الحسنة أم لا؟ وهل تم الحصول على المواد بوسائل مشروعة وتم دفع أجور العمال بعدل؟" حنى المهندس رأسه خجلًا، لأنه في عجلة بناء الصرح العظيم، كان قد أغفل بعض هذه النقاط. قال الملك: "كل علم لا يطبق، وكل فن لا يستخدم في سبيل خير الناس وصلاحهم، ليس عديم القيمة فحسب، بل قد يكون ضارًا أيضًا." تذكرنا هذه القصة أنه حتى في ذروة التقدم التكنولوجي مثل الذكاء الاصطناعي، تكمن القيمة الحقيقية في بناءه على أسس الأخلاق والعدل وتقديم النفع، وإلا فقد يؤدي بدلاً من العمران إلى الفساد والخراب.