يرى القرآن مسؤولية الإنسان تجاه المجتمع متجذرة في الخلافة الإلهية، وتشمل واجبات مثل الأمر بالمعروف، وإقامة العدل، وتعزيز التعاون، ورعاية الضعفاء. هذه المسؤوليات ليست مجرد واجبات أخلاقية بل هي شروط للخلاص والمساءلة أمام الله.
في القرآن الكريم، تحتل مسؤولية الإنسان تجاه المجتمع مكانة رفيعة وعميقة، ولا تُعتبر مجرد واجب أخلاقي، بل هي مبدأ إيماني أساسي وشرط للخلاص. من منظور القرآن، الإنسان ليس كائناً منفرداً ومنفصلاً عن محيطه؛ بل هو جزء لا يتجزأ من كيان اجتماعي موحد، ترتبط سعادته وشقاؤه بتفاعلاته وعلاقاته مع الآخرين، وبأدائه لدوره داخل البنية الاجتماعية. هذه الرؤية القرآنية تخرج الفرد من حدود الأنانية وتدفعه نحو المشاركة الفعالة والبناءة في مصير الجماعة. الأساس الذي ترتكز عليه هذه المسؤولية الاجتماعية هو مفهوم "الخلافة". فقد جعل الله تعالى الإنسان خليفته على الأرض، كما جاء في سورة البقرة، الآية 30: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). هذه الخلافة لا تعني مجرد السيطرة على الطبيعة واستغلال موارد الأرض، بل تلقي على عاتق الإنسان عبء الأمانة الثقيل ومسؤولية الحفاظ عليها، إعمارها، وإقامة العدل والقسط فيها. الإنسان الذي هو خليفة الله، يجب أن يعكس في جميع شؤون حياته صفات الله مثل العدل والرحمة والحكمة والنظام. وبالتالي، تنبع مسؤولية الإنسان تجاه المجتمع من هذا المفهوم العميق للخلافة، مما يمنحه دوراً محورياً في بناء مجتمع صالح ومتوازن. أحد أبرز مظاهر المسؤولية الاجتماعية في القرآن هو مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". هذا المبدأ مذكور صراحة في آيات مثل سورة آل عمران، الآية 104: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). تشير هذه الآية إلى أن الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر هي واجب عام يقع على عاتق جميع المؤمنين، وتشكل أساس إصلاح المجتمع ومنع الفساد. تتطلب هذه المسؤولية معرفة المعروف والمنكر، والشجاعة في قول الحق، والحكمة في طريقة التنفيذ. العدل والقسط هما العمود الفقري للمسؤولية الاجتماعية في تعاليم القرآن. يؤكد القرآن مراراً وتكراراً على ضرورة إقامة العدل في جميع أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية. في سورة النساء، الآية 135، نقرأ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ" (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين). هذه الآية توضح بجلاء أن العدل يجب أن يتقدم على أي مصلحة، حتى لو كانت شخصية أو عائلية. إن نشر العدل، واقتلاع الظلم، والدفاع عن حقوق المظلومين، من أهم الواجبات الاجتماعية لكل مسلم. العدل لا يقتصر على مجال القضاء فقط، بل يشمل العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية أيضاً. التعاون والتضامن الاجتماعي من الأبعاد الأخرى لمسؤولية الإنسان في المجتمع. يدعو القرآن المؤمنين إلى التعاون في البر والتقوى وينهى عن التعاون في الإثم والعدوان. في سورة المائدة، الآية 2، جاء: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). تؤكد هذه الآية بوضوح على أهمية التآزر والدعم المتبادل من أجل خير المجتمع وصلاحه. روح الأخوة الإسلامية، التي وردت في سورة الحجرات، الآية 10 ("إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ"), هي أساس هذه التعاونات. يشمل هذا التضامن مساعدة المحتاجين، ورعاية الفقراء، والأيتام، والمساكين، وتقديم العون للمحرومين. الزكاة والصدقات هي أمثلة بارزة لهذه المسؤولية المالية والاجتماعية، التي تم التأكيد عليها بشدة في القرآن. هذه المساعدات ليست مجرد أعمال خيرية، بل هي أدوات لإعادة توزيع الثروة وتقليل الفجوة الطبقية في المجتمع. الوفاء بالأمانات والعهود من المسؤوليات الاجتماعية الأخرى التي حظيت باهتمام خاص في القرآن. سواء كانت أمانات فردية أو عامة (مثل المسؤوليات الحكومية أو الاجتماعية)، فإن الإنسان مسؤول عنها. كما يؤكد القرآن على ضرورة الابتعاد عن الفساد في الأرض. يشمل الفساد أي شكل من أشكال التدهور البيئي، والإخلال بالنظام الاجتماعي، والفساد الأخلاقي. في سورة الأعراف، الآية 56، جاء: "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا" (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها). هذا يدل على أن الإنسان مسؤول ليس فقط تجاه المجتمع البشري، بل تجاه البيئة والصحة العامة لكوكب الأرض أيضاً. أخيراً، تعود كل هذه المسؤوليات إلى مفهوم "المسؤولية الفردية" أمام الله تعالى. سيُحاسب كل إنسان يوم القيامة على أعماله ومدى قيامه بمسؤولياته تجاه المجتمع. هذا الوعي بالمساءلة أمام الله يوفر دافعاً قوياً ودعماً متيناً لأداء المسؤوليات الاجتماعية. وبالتالي، فإن مسؤولية الإنسان تجاه المجتمع في القرآن هي مسؤولية متعددة الأوجه تنبع من الأسس الاعتقادية (التوحيد والخلافة) وتشمل أبعاداً أخلاقية (العدل، الإحسان)، واجتماعية (الأمر بالمعروف، التعاون)، وحتى بيئية. هذه المسؤوليات ليست ضرورية فقط لخلق مجتمع صحي ومستدام، بل هي أيضاً طريق لتحقيق رضا الله والخلاص في الآخرة.
يُروى في گلستان سعدي أن ملكاً عادلاً كان لديه وزير حكيم. ذات يوم، سأل الملك وزيره: "على أي أساس تقوم مملكتنا؟" فأجاب الوزير بتواضع: "يا أيها الملك الطيب السيرة، إن أساس المملكة ليس على كنوز مخبأة ولا على جيوش كثيرة، بل على العدل ورضا الناس. متى نظرت إلى رعيتك بعين المودة وأديت مسؤوليتك تجاههم على أكمل وجه، فإن مملكتك ستدوم واسمك سيخلد. فإن الإحسان إلى الخلق يأسر القلوب ويقوي أركان السلطنة." فأخذ الملك بهذه النصيحة واجتهد أكثر في رعاية شؤون الناس وإقامة العدل، فبقي ذكره حسناً.