يوفر القرآن إطارًا شاملاً لاتخاذ القرارات الأخلاقية اليومية من خلال التأكيد على التقوى والعدل والإحسان والصدق والاعتدال. تساعد هذه التعاليم الأفراد على السير دائمًا في طريق رضا الله والخير.
القرآن الكريم، كلام الله النوراني والهادي، ليس مجرد كتاب عبادي؛ بل هو دليل شامل وكامل لجميع جوانب الحياة البشرية، ولا سيما في مجال اتخاذ القرارات الأخلاقية اليومية. يقدم هذا الكتاب السماوي المبادئ والقيم والأمثلة العملية، ويوفر إرشادًا لا مثيل له للعيش في طريق الفضيلة والحق. من أهم مساعدات القرآن في هذا الصدد هو غرس "التقوى"، وهي خشية الله والورع. يؤكد القرآن مرارًا على أهمية التقوى، ويعتبرها معيار تفضيل البشر. عندما يضع الإنسان في كل لحظة من حياته حضور الله في اعتباره، ويعلم أن كل عمل يقوم به مسجل وسيُحاسب عليه يومًا ما، فإنه بطبيعة الحال يتخذ قراراته بحذر أكبر ويسعى لاختيار الطريق الذي يرضي الله. هذا الشعور بالمسؤولية أمام الله هو أكبر دعم لاتخاذ قرارات أخلاقية صحيحة ويمنع الفرد من ارتكاب الأخطاء والظلم. على سبيل المثال، في معاملة تجارية، إذا تحلى الشخص بالتقوى، فلن يلجأ أبدًا إلى الغش، أو بخس الحق، أو كتمان عيب السلعة، لأنه يعلم أن الله مطلع على ما في داخله وظاهره، وأن كل عمل، حتى أدنى ما يكون، سيوزن في الموازين الإلهية. إلى جانب التقوى، يشدد القرآن بشكل خاص على مبادئ مثل "العدل" و "الإحسان". العدل يعني وضع كل شيء في موضعه الصحيح والمعاملة المنصفة للآخرين، حتى لو كانوا أعداء للإنسان أو ظلموه بطريقة ما. يقول القرآن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المائدة: 8). هذه الآية تبين أن العدل يجب أن يطبق بمعزل عن أي تعصب أو حقد أو مصالح شخصية. في الحياة اليومية، هذا المبدأ يرشد في العلاقات الأسرية، والاجتماعية، والمهنية، وحتى في طريقة الحكم على الآخرين. على سبيل المثال، في النزاعات الأسرية، يسعى الشخص الملتزم بالقرآن إلى العدل والحق بدلًا من الانحياز غير المشروط للأقارب، ويحاول إعادة الحقوق إلى أصحابها. والإحسان يعني فعل الخير بما يتجاوز مجرد العدل؛ أي فعل الشيء بأفضل طريقة ممكنة والتعامل مع الآخرين بكرم وعفو. يتجلى هذا المبدأ في التعامل مع المحتاجين، والأيتام، والجيران، والوالدين، وحتى الحيوانات. يؤكد القرآن الكريم بشدة على الإحسان إلى الوالدين ويذكره مباشرة بعد التوحيد: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" (الإسراء: 23). توفر هذه التوجيهات القرآنية الواضحة إرشادات عملية لمواجهة التحديات الأخلاقية والاختيارات الصعبة. كما يؤكد القرآن بشدة على "الصدق" و "الأمانة". الكذب وخيانة الأمانة من الكبائر التي ذمها القرآن بشدة. هذه التعاليم مهمة جدًا في العلاقات المهنية والاجتماعية وحتى في طريقة التعبير عن الآراء. المسلم المستلهم من القرآن يترك الكذب حتى في المزاح، أو في الأوقات التي يبدو فيها له نفعًا. والأمانة لا تشمل فقط حفظ أموال الآخرين، بل تشمل حفظ الأسرار، والمسؤولية في أداء الواجبات، وحتى الحفاظ على سلامة المجتمع. في مجال التواصل، يؤكد القرآن على "عدم الغيبة"، و"عدم الافتراء"، و"عدم السخرية من الآخرين"، و"حسن الظن بالآخرين". تساعد هذه التعاليم على خلق بيئة صحية وآمنة ومليئة بالاحترام. وبدلاً من الغيبة، يوصي القرآن بالنصيحة النافعة والبناءة، بعيدًا عن فضح العورات. في مواجهة أخطاء الآخرين، يطرح القرآن مبدأ "العفو والصفح" ويوصي بأن نقابل الإساءة بالحسنى حتى تزول الضغينة والعداوة: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت: 34). يلعب هذا النهج الإيجابي للخير والعفو دورًا حيويًا في حل النزاعات وإصلاح العلاقات. أخيرًا، يرشدنا القرآن في اتخاذ القرارات الأخلاقية من خلال التأكيد على "الاعتدال" والابتعاد عن الإفراط والتفريط. يصف هذا الكتاب الأمة الإسلامية بأنها "أمة وسط"، تسلك طريق الاعتدال في جميع الأمور. هذا المبدأ يعني الابتعاد عن أي شكل من أشكال التطرف أو التهاون في العمل والاعتقاد. في المسائل الاقتصادية، لا يؤيد القرآن الفقر المطلق ولا تراكم الثروات بلا حدود، بل يدعو إلى الإنفاق، ومساعدة المحتاجين، وتجنب الإسراف والتبذير. وفي المسائل الاجتماعية، لا يدعو إلى الانعزال والوحدة، ولا إلى الفجور والتخلي عن المبادئ الأخلاقية. توفر هذه التعاليم إطارًا شاملاً لكل قرار أخلاقي. في أي موقف صعب، بالرجوع إلى آيات القرآن والتفكر في معانيها، يمكن للفرد أن يميز الطريق الصحيح. لا يكتفي القرآن بتقديم أوامر صريحة، بل يصور، من خلال سرد قصص الأنبياء والأمم السابقة، عواقب الأعمال الحسنة والسيئة، وبهذه الطريقة، يعلم الإنسان دروسًا عملية ودائمة للاختيارات الأخلاقية في الحياة اليومية. وهكذا، فإن القرآن، من خلال غرس روح خشية الله، والسعي للعدل، والإحسان، والصدق، والاعتدال، يساعد بشكل فعال في تشكيل وتوجيه قراراتنا الأخلاقية في كل لحظة من حياتنا.
يُروى في "گلستان" لسعدي أن ملكًا عادلًا حلم ليلة بأن ملاكًا قال له: "مُلكك قائم على العدل، ولكن هل تتصرف بالعدل دائمًا؟" استيقظ الملك من نومه وتفكر. تذكر يومًا جاء فيه فقير إلى بلاطه، وبسبب عدم وجود وثائق، صدر حكم لصالح رجل غني. قال الملك لنفسه: "لعل القرآن ذكرني أنه حتى لو لم يكن هناك دليل واضح، فإن الحق مع المظلوم." ومنذ ذلك الحين، أولى الملك اهتمامًا أكبر لروح العدل والإحسان في قراراته، وبدلًا من الاكتفاء بالظواهر، تعمق أكثر لاكتشاف الحقيقة ومساعدة الضعفاء، لأنه كان يعلم أنه مسؤول أمام ربه. وهكذا، انتشرت السمعة الطيبة والهدوء في مملكته، واعتبره الناس ملكًا عادلًا وتقيًا.